يفترض أن تجري أول انتخابات برلمانية في مصر بعد الثورة في أيلول (سبتمبر) المقبل، ومع ذلك فإن المسرح السياسي غير مهيأ لإجرائها، وحتى قانون مجلس الشعب الذي سيحدد طريقة الاقتراع لم يصدر بعد، علاوة بالطبع على الاعتراضات الكثيرة من جانب غالبية القوى السياسية، باستثناء الإسلاميين، على إجراء الانتخابات قبل إقرار دستور جديد للبلاد، أو انتخاب رئيس للدولة. يخشى بعضهم من انفلات أمني ما زالت تعاني منه مصر يجعل تأمين عملية الاقتراع أمراً مستحيلاً، على رغم أن غالبية المصادمات التي حدثت في كل انتخابات سابقة كانت بسبب إصرار الحزب «الوطني» على التزوير لمصلحة مرشحيه مقابل اعتراض مرشحي الأحزاب والقوى السياسية الأخرى على إغلاق لجان الاقتراع في وجوه الناخبين أو ممارسة التزوير داخل اللجان نفسها، أو تبديل الصناديق أو إعلان نتائج أخرى غير التي تعكس إرادة الناخبين. كما أن القوى السياسية التي أفرزتها ثورة 25 يناير لم تنتظم بعد في أحزاب تعبر عنها، ومن استطاعوا تشكيل أحزاب من مفجري الثورة أو داعميها يحتاجون إلى وقت للوصول إلى الناس وتجهيز أنفسهم لأول انتخابات حرة نزيهة لن يكون للسلطة الحاكمة فيها مرشحون! إضافة الى مبررات قانونية ودستورية طرحها معارضو «الانتخابات البرلمانية أولاً» والمطالبون ب «دستور وانتخابات رئاسية أولاً». واللافت أن وزراء في حكومة الدكتور عصام شرف يؤيدون ذلك الاتجاه علناً ومع ذلك يسيرون في إجراءات البرلمان أولاً وليس الدستور أولاً! وعلى الجانب الآخر هناك الإسلاميون بمختلف فصائلهم الذين يطرحون أيضاً مبررات قانونية ودستورية لدعم موقفهم من ضرورة إجراء الانتخابات قبل الدستور، وهؤلاء وعلى رأسهم «الإخوان المسلمون» بالطبع، «متهمون» بأنهم منظّمون ولديهم صلات بالشارع وخبرات في التعامل مع الانتخابات وأمامهم فرص لحصد عدد وافر من المقاعد البرلمانية. وبين هؤلاء وأولئك هناك جحافل «البلطجية» الذين استخدمهم النظام السابق لسحق المعارضين ووظَّفهم الحزب «الوطني» لتأديب المنافسين، والمخاوف من أن يفسدوا عملية الاقتراع لتحقيق أمنيات «الفلول» من مؤيدي النظام السابق سعياً إلى الإساءة إلى الثورة أو إثباتاً لمقولة مبارك التي أطلقها قبل تنحيه بأن غيابه يعني الفوضى. ويبدو أن المجتمع المصري في هذه المرحلة الانتقالية يحتاج إلى مزيد من الوقت لتدرك القوى السياسية كيف تدير خلافاتها وتعرف أن تباين المواقف لا يعني الشجار، وإنما هو من طبيعة الأمور، فاللافت مثلاً ذلك المشهد الذي صار معتاداً في كل حوار وطني أو قومي، وفي كل محفل تتباين فيه الرؤى حول المستقبل كما حدث حول المشاركة أو المقاطعة لجمعة الغضب الثانية. ويبدو أن بعضهم ما زال يرى أن اساءة طرف إلى الأطراف الأخرى وسيلة أسهل وأجدى من طرح نفسه أو الترويج لبرنامجه أو مشروعه السياسي. ما زال في الذاكرة ما حدث للدكتور محمد البرادعي حين توجه إلى إحدى لجان الاقتراع للاستفتاء على التعديلات الدستورية، كذلك ما صاحب جولات عمرو موسى ومؤتمراته في بعض المدن والمحافظات، وأخيراً العراك في مؤتمري «الحوار الوطني»، و «الوفاق القومي»، وحوار قادة المجلس العسكري مع شباب الثورة. ويبدو الأمر أكثر وضوحاً في تصيّد بعض الأطراف أخطاء الأطراف الأخرى، كما الحال بالنسبة الى الحملة على جماعة «الإخوان المسلمين»، وكذلك حملات بعض الإسلاميين ضد رموز من الليبراليين أو اليساريين. في الأسبوع الماضي جرى سجال حاد بين بعض وسائل الإعلام والقوى السياسية في شأن مقال للكاتب فهمي هويدي استند فيه إلى تغطية «الحياة» جمعة الغضب، وصدقت كل الأطراف أن الصحيفة قدَّرت عدد من شاركوا في التظاهرة بثلاثة آلاف، على رغم أن البديهي أن عدد الذين يترددون على محطة باصات في ميدان التحرير حتى من دون ثورة يفوق ذلك العدد، ولو قرأ الذين انتقدوا التغطية لأدركوا أن المقصود بالثلاثة آلاف هو تقدير عدد الذين باتوا في الميدان انتظاراً لتظاهرة اليوم التالي. عموماً تخطى المصريون مرحلة الإجماع على إسقاط النظام، ودخلوا مرحلة التنافس من أجل المستقبل. وإذا كان من مصلحة فلول النظام السابق الوقيعة بين القوى السياسية المصرية، فإن الغريب أن بعض تلك القوى اتفق على أن يختلف، ولا تدري أن المنافسة حق للجميع في مجتمع ما بعد الثورة، وأن الشعب الذي ثار يستحق أن تتاح له فرصة الاختيار ... من دون اجبار.