هل يكون الذكاء الاصطناعي طوق نجاة «قانون مور» الشهير بشأن الرقاقات الإلكترونيّة («مايكروتشيبس»/ Microchips) وتطوّر قواها وآفاقها وأموالها، أم يحمله أخيراً إلى حفرة التجاهل؟ عام 2017، كان الصوت المميز في تلك الصناعة هو انتقال الرقاقات الإلكترونيّة (وهي بمثابة العقل المفكر في الآلات الذكيّة) إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي. ويعني ذلك أن صُنّاعها زوّدوها بتراكيب تقنيّة تمكّن الآلات التي تحلّ فيها كالكمبيوتر والهاتف الذكي، من التعرّف من تلقاء نفسها على أسلوب مستخدمها البشري، فتتفاعل معه بناءً على ذلك. لنقل أن هناك من يستعمل أساليب معينة في كتابة الرسائل النصيّة لأصدقائه ومعارفه وزملاء عمله ومسؤولي شركته و... غيرهم. بعد فترة من الاستخدام، يصبح الخليوي الذكي قادراً على أن يقدّم له التعابير الملائمة، بمجرد أن يشرع في كتابة رسالة إلى صديقة يتودّد إليها، وتكون مختلفة عما تعطيه تلك الآلة عند الشروع في كتابة رسالة نصيّة إلى زوجته أو مديره! من الواضح أن تلك الميزات تستلزم أن تكون الرقاقات الإلكترونيّة متمتعة بقدرات أكبر مما مضى، مع الحفاظ على حجم أصغر وربما كلفة أقل أيضاً. واستطراداً، بدت تلك الرقاقات كأنها تشكّل تحدّياً آخر لقانون «مور». وفي المقابل، لم تصعد شكوى بشأن ذلك القانون من صُنّاع رقاقتان أُعلِنَ عن امتلاكهما ذكاءً اصطناعيّاً عام 2017 (هما «لويهي»/ Loihi التي صنعتها شركة «إنتل»/ Intel، و»كيرين 970» المتضمّنة في هاتف «نيو مايت 10»/ New Mate 10 من شركة «هواوي»/ Huawei). واستطراداً، الأرجح أن الرقاقتين توافقتا مع ذلك القانون بسلاسة. ووفق مقال ظهر في مطلع 2018، في الملحق العلمي لصحيفة «لوموند» الفرنسيّة، من غير المتوقع أن تضرب صدقية قانون «مور»، إلا عند وصول صناعة الرقاقات الإلكترونيّة إلى حدود الذرّة، بمعنى أن يصبح كل مكوّن إلكتروني في الرقاقة مجرد مجموعة صغيرة من الذرّات. واستدرك المقال مشيراً إلى أن التقدّم في تقنيات نانوتكنولوجيا وعلوم فيزياء الكموميّة، ربما شكّلا حلاً مستقبليّاً يضمن استمرار «قانون مور»! ما الذي قاله ذلك العالِم حقاً؟ في نيسان (أبريل) 1965، ظهر مقال في مجلة «الإلكترونيّات» الأميركيّة، سرعان ما تحوّل عنواناً لثورة المعلوماتيّة. حمل المقال توقيع عالِم شاب اسمه غوردن مور، كان تخرّج لتوّه آنذاك في «معهد التكنولوجيا في كاليفورنيا». في المقال، توقّع مور أنّ استمرار التقدّم التكنولوجي في الرقاقات الإلكترونيّة، يتيح باستمرار صنع أجهزة رقميّة أصغر حجماً وأشد ذكاءً، مما يسبقها. واستند مور إلى التقدّم العلمي في الأدوات الإلكترونيّة في عقديّ الخمسينات والستينات من القرن العشرين، متوقّعاً أنّ حجم الكومبيوتر سيتقلّص بمقدار النصف مع ارتفاع قوّته بمقدار الضعفين، كل عامين. ولاحقاً، اشتُهِرَ ذلك التوقّع باسم «قانون مور»، بل صار عنواناً لأفق مفتوح من التطوّر والابتكار في الثورة الرقميّة وأجهزتها الذكيّة. وبعدها، تراكمت الوقائع مؤكّدة صحّة التوجّه العام لما ذهب إليه «قانون مور». واستطراداً، ربما كان مفيداً استعادة أن واضع ذلك القانون أسّس مع آندي غروف، شركة «إنتل» (Intel)، وهي العملاق الأضخم في صناعة الرقاقات الإلكترونيّة. وفي أوقات كثيرة، بدا أنّ بعض الحواجز ربما أعاقت التطوّر في الرقّاقات الإلكترونيّة التي تعتبر العقل المُفكّر للكومبيوتر والأجهزة الذكيّة كلّها. إذ عانى صُنّاع الرقاقات من عوائق شتى كالحرارة التي تنبعث من الرقاقات، وحجم استهلاكها للكهرباء، وكمية الترانزستورات التي يمكن وضعها ضمن كل رقاقة وغيرها. وغالباً، تمكّن العلماء من تخطّي على تلك العوائق. ومن الناحية التقنية، من المستطاع وصف الرقاقة بأنها تجمّع لعدد كبير من الترانزستورات، وكلما زاد العدد، ارتفعت قدرات الرقاقة، وتاليّاً يزيد الكومبيوتر ذكاءً. وبفضل تقنيّات متنوّعة تتصدّرها النانوتكنولوجيا، بات ممكناً رصف بلايين الترانزستورات في كل رقاقة، مع تضاعف ذكائها أيضاً. امرأة تذكّر ب «تنين بكين» قبل بضع سنوات، حدثت قفزة نوعيّة في صناعة الرقاقات الإلكترونيّة. إذ صنعت شركة «إنتل» رقاقة متطوّرة وصفها الموقع الإلكتروني لمجلة «ساينس» العلمية الشهيرة بأنها «رقاقة اتصالات رخيصة وكفيلة بأن تُحدِث ثورة في طرق الاتصال بين الأجهزة الذكيّة بعضها بعضاً». وآنذاك، بدا ملفتاً أن مهندسة صينيّة في «إنتل» (هي لينغ لياو)، قادت جهود صناعة تلك الرقاقة الليزريّة. واستخدمت لياو النحاس الرخيص الثمن في الربط بين أعداد هائلة من الترانزستورات المرصوصة في الرقاقة، ما خفض أيضاً تكلفة صنعها. ووفّرت رقاقة الليزر سرعة ضخمة في نقل المعلومات، ما مكّن من نقل المعلومات وأفلام الفيديو والموسيقى ومواد التلفزيون وغيرها، بصورة مباشرة بين الحواسيب، بل من دون الحاجة للمرور بشبكة الإنترنت. في المقابل، ثارت في بعض العقول خشية من أشياء أخرى، من بينها الصراع الأميركي- الصيني في عوالم المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة. ومن دون نية الدخول في سجّل طويل، يشتهر عن الصين دأبها في الحصول على الأسرار العلمية والتقنية لعوالم الإلكترونيّة، خصوصاً الرقاقات الإلكترونيّة والمكوّنات المتّصلة بها. وهناك مثل قريب عن ذلك المسعى يتمثّل في تمكّن الصين من مد أصابعها في دواخل شركة «ويسترن ديجيتال» الأميركيّة، وهي من الأقطاب البارزة في الصناعة المتصلة بالرقاقات الإلكترونيّة. واستغلت الصين علاقتها مع الشركة كي تحاول خلسةً، التسلّل من أبواب خلفيّة، إلى شركات أميركيّة كثيرة أخرى. لم تكن الصفقة مع «وسترن ديجيتال» سوى حلقة ضمن سلسلة من 17 صفقة تملّك سعت الشركات الصينيّة إلى إبرامها في قطاع أشباه الموصّلات. والملفت أن مجموعة «تسينغهوا يونيغروب» الحكوميّة التي ترأسها في سنوات سابقة إبن الرئيس الصيني السابق هو جين تاو، قدّمت عرضاً ب23 بليون دولار في صيف 2016، لتملّك شركة «مايكرون تكنولوجيز» الأميركيّة. وسرعان ما انهارت الصفقة بعد ما أعرب اثنين من أعضاء الكونغرس من ولاية «إيدياهو» عن مخاوفهما بأن تمسّ الصفقة الأمن القومي. وبالتالي، غيّرت «يونيغروب» مسارها. وراحت تعمل عبرت شركة «يونيسبلندور» المتفرّعة منها للاستحواذ على حصّة 15 في المئة من شركة «وسترن ديجيتال». عن معارك «خفيّة» مستمرة في دليل واضح على أنّ الاندماج بين مجموعة «تسينغوا يونيغروب» الصينيّة شبه الحكوميّة وشركة «ويسترن دجيتال» حصل بالقوة، وافقت وزارة التجارة الصينيّة عام 2012 بصورة بدت مفاجئة آنذاك، على استحواذ الشركة الأميركية، على قسم الأقراص الصلبة في شركة «هيتاشي ليمتد». ويلفت أنّ الصفقة عينها جرت دراستها والموافقة عليها من قِبَل السلطات المنافسة في الولاياتالمتحدة وأوروبا وأستراليا واليابان. وواجهت الصين تلك القوى مجتمعة بالتحرّك ببطء وحذر عميقين. إذ عملت تدريجيّاً على منع «وسترن ديجيتال» من ادّخار مبالغ بقيمة 400 مليون دولار. ومع حلول عام 2016، باتت «وسترن ديجيتال» ثالث شركة تكنولوجيا معلومات عالميّة تقبل باستثمارات من مؤسسات حكوميّة صينيّة، بأمل نيل بعضاً من الأموال الصينيّة المتدفقّة إلى قطاع المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة في أميركا! رهان في ثلوج «دافوس» وعام 2016 أيضاً، قبل أيام قليلة من الإعلان عن صفقة بين «وسترن ديجيتال» وشركة معلوماتيّة أميركيّة اخرى هي «يونيسبلندور»، التقى الرئيسان شي جين بينغ وباراك أوباما. وآنذاك، وعد الصيني نظيره الأميركي بالحدّ من موجة عمليات الاقتحام والسرقة عبر الفضاء السيبراني للإنترنت. ونقل أوباما إلى شي قلقه من سطو ال «هاكرز» الصينيّين على معارف تتصل بابتكارات ومنتجات وتقنيّات أميركية، وهي من أثمن ما تحوزه الصناعة الأميركيّة. وعلى رغم تعهّد صيني، اتّضح سريعاً أن ذلك النوع من القرصنة لم يتوقّف أبداً. واستطراداً، يعطي قرار ترامب بالتدقيق في ممارسات الصين التجارية والصناعيّة، انطباعاً بأنّ تلك القرصنة لن تتوقّف، أقلّه ليس في المدى المنظور. والأرجح أن شيئاً من تلك الظلال الثقيلة انتقل إلى «منتدى دافوس- 2018» الذي تستضيفه تلك المدينة السويسريّة في قلب جبال سويسرا الكثيفة الثلوج. إذ اشتهر ذلك التجمّع للأقوى في المال والشركات والأعمال والدول، بكونه رافعة دؤوبة للعولمة النيوليبراليّة التي قادتها أميركا طويلاً. وحدثت انعطافة بوصول الرئيس دونالد ترامب إلى الرئاسة، مع شعار «أميركا أولاً» المتناقض مع تلك العولمة. وكذلك تقع الصين في خانة من تراهم عين ترامب مستفيدين من العولمة على حساب الولاياتالمتحدة. والأرجح أن صداماً أميركياً- صينيّاً مكشوفاً في «دافوس» سيترك آثاراً قويّة في الاقتصاد العالمي، وفي المقدمة منه صناعة المعلوماتيّة وأجهزتها وأدواتها التي «يعشعش» في ثناياها قانون «مور»!