استهلت سنة 2017 بثلاثة أنباء بدت هيّنة، يجمع بينها أنّها تتعلّق بالصين المعاصرة التي تتبدّل وربما تبدل العالم معها. ومن المستطاع تخيّل مشهد بث تقرير تلفزيوني عن تلك الأنباء الثلاثة التي نالت نصيباً متفاوتاً (لكنه ظل مائلاً إلى البرودة) في الاعلام العام، من أعلى «سور الصين العظيم». ويسرد التقرير المتخيّل أن الصين الشيوعيّة حافظت بقدر أو آخر، على المعنى المعنوي والمادي للسور الموروث من ممالك قديمة، كان بعضها يعتقد أن العالم يقتصر على أراضيها الواسعة، فيما تمدّد بعضها الآخر مجتاحاً العالم العربي وصولاً إلى أطراف أوروبا في القرن الخامس عشر. ويشير التقرير أيضاً إلى أن الصين في 2017، هدمت أسوارها، وانطلقت في خطة للعولمة على طريقتها، بمعنى ربط اقتصادات دول في قارات العالم كافة لكنها تختلف عن العولمة الحديثة التي قادتها أميركا منذ تسعينات القرن العشرين، بأنها تركز على الجغرافيا، بما فيها الجغرافيا السياسيّة والكيانيّة للدول والشعوب والمجتمعات. «تحت شعار ردّده رئيسها شي جينبينغ كثيراً («حزام واحد، طريق واحد») واشتهر بتسميّة «طريق الحرير الجديد»، أوصلت الصين نمطها من العولمة إلى لندن، فصارت تمتد من أطراف المحيط الهادئ والقطب المتجمد الشمالي وجبال الهملايا إلى بحر الشمال والمانش، إضافة ملامسة البحر الأبيض المتوسط. وبذا، استهلت سنة 2017 باحتفال لم ينل تغطية عظيمة (بمعنى أن مباريات برشلونة وريال مدريد تنال حظاً أوسع منه)، لكنه امتد من محطة سكك الحديد في لندن إلى قلب بكين التي لم يعد سورها الذي كان ذات مرّة عظيماً، سوى مجموعة من الحجارة الضخمة التي تذكر بتاريخ مهيب. إذأً تصنع الصين الآن تاريخها المهيب، إذ ترصد ل «درب الحرير الجديد» مبالغ هائلة يروج أنّها تصل إلى عشرة تريليونات دولار، ما يفوق كل المشاريع الضخمة التي شهدتها البشرية في تاريخها، بما في ذلك الأهرامات في مصر و... سور الصين العظيم»، وفق الكلمات الختاميّة في التقرير المتخيّل. سكة حديد وجداول للبرامج إذا كان وصول أول سكة حديد من بكين إلى لندن نال شيئاً من الضجة في الإعلام العام (وأقل منها كثيراً في معظم الإعلام العربي)، فإن الحدثين الآخرين نالا صمتاً واسعاً، بل رافقهما سكون تام في الإعلام العام عربيّاً. تمثّل الأول في استقالة خبير المعلوماتية الصيني كي لو من الصفوف الأولى في إدارة شركة «مايكروسوفت» العملاقة، وانتقاله للعمل في محرك البحث «بايدو» Baidu الذي يعمل في الصين، بل يعبتر سوراً افتراضيّاً عظيماً يفرض على 1.4 بليون بشري ألا يتّصلوا بالانترنت إلا عبره. ولم يكن الحدث الثالث سوى حادث صامت بالتعريف! إذ إنّه يتمثّل في إلغاء «رابطة التقدّم في الذكاء الاصطناعي» لقاءها الدولي السنوي، بسبب تعارض موعده مع بداية رأس السنة... الصينيّة! ثمة دلالة كثيفة لتعذّر عقد لقاء دولي للعقول البشرية الخبيرة في الذكاء الاصطناعي، بسبب عدم حضور العقول الصينيّة فيه. ألا يصح ذلك مؤشّراً على مدى تقدّم الصين في ذلك الحقل الذي يعتبر الركن الأساس في علوم المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة. وعلى عكس ابتعاد (بالأحرى استبعاد) معظم العالم العربي عن عولمة «طريق الحرير الجديد»، فإن عالِماً من تلك المساحة الجغرافيّة ينتمي إلى أحد أزمنة «درب الحرير» الأصلي، يبدو متسيّداً في دواخل الصين المعاصرة. يدور الكلام على محمد بن موسى الخوارزمي الذي عاش بين عامي 780 و850 للميلاد تقريباً. وأسس علماً قوامه وضع جداول تمكّن من التوصل إلى حلول لمسائل معقّدة في الرياضيات بواسطة اتّباع خطوات متسلسلة تربطها معادلات دقيقة. وعُرِف ذلك العلم وجداوله الرياضيّة باسم «خوارزميّات» Algorithm، قياساً الى اسم مؤسّسه الذي أسّس علماً رياضيّاً آخر سمّاه الجبر، وشاع بتلك التسمية عينها. وفي القرن العشرين، ظهرت علوم الكومبيوتر والذكاء الاصطناعي، فاستندت بعمق الى الجداول الرياضيّة التي وضعها الخوارزمي، بل سارت على نسقها لدى صوغها برامج الكومبيوتر والآلات الذكيّة كافة. وما زال مصطلح «الخوارزميات» مستخدماً باعتباره توصيفاً علميّاً لبرامج الحاسوب والروبوب والأجهزة المؤتمتة وكل ما يعمل بالذكاء الاصطناعي. ووفق تقرير تفصيلي مطوّل نشرته مجلة «الإيكونومست» البريطانية في مطلع 2017، تضمّ الصين الكميّة الأضخم من المعلومات المصاغة في جداول خوارزميّة، ما يعني أنها تمتلك البنية العلمية التحتيّة اللازمة لتحوّلها قطباً وازناً في المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، بل ربما تكون القطب الأول المتقدم عالمياً حتى على الولاياتالمتحدة، وفق استنتاجات «الايكونومست». بقول آخر، تتمدّد بحور من المعلومات العلميّة المكتوبة على طريقة الخوارزمي في طول بلاد الصين وعرضها، تحت حراسة سورها ومحرّك بحثها «بايدو». لكنها تسعى للانتشار عالميّاً، بل نشر عولمة على طريقة بكين وصورة الأخيلة الإمبراطوريّة التي تملأ مخيّلات حكّامها. الكنز الصيني بأرقام تريليونيّة في 2030 على رغم أن الولاياتالمتحدة مازالت تنتج العدد الأكبر من براءات الاختراع عالميّاً، إلاّ أنّ معدل زيادتها السنوية في الصين بلغ 200 في المئة في 2016، ما يفوق المعدل الأميركي. وفي خريف ذلك العام، أجرى البيت الأبيض تحت قيادة الرئيس باراك أوباما تحقيقاً رسميّاً عن عدد المقالات العلمية في علم «التعلّم العميق للآلات» Deep Machine Learning وهو من الفروع الأكثر تقدّماً في علوم الكومبيوتر. وتبيّن أن علماء الصين قدّموا عدداً من المقالات يفوق كثيراً تلك التي وضعها علماء أميركا. وكان ذلك بمثابة جرس إنذار مقلق، لكنه لم يكن سوى الرنّة الأخيرة في سلسلة من رنّات مُشابهة. وفي السنوات الأخيرة، سرى في أميركا شعور عميق بالانزعاج حيال اختفاء الوظائف في عدد كبير من مؤسّسات الصناعة التقليدية، بالترافق مع انقضاض موجة عملاقة من المنتجات الاستهلاكيّة التي طُبع عليها عبارة «صُنع في الصين». ومع الأرقام الواردة آنفاً، شعرت الرئاسة الأميركيّة بتوتر ضخم، خصوصاً حين أعلنت الصين عزمها نقل الإنجاز الذي حقّقته في الصناعة التقليديّة، إلى التكنولوجيات الحديثة من النوع الذي يوجّه الاقتصاد الرقمي. وكذلك توقّع مختصون أميركيّون أن يقدّم الاقتصاد المستند إلى الذكاء الاصطناعي إلى الناتج الاقتصادي العالمي قرابة 16 تريليون دولار عند حلول عام 2030، مع تراكم نصف ذلك الكنز في الصين. ما زاد قلق البيت الأبيض حيال السياسة الصينية المعلنة في ذلك الخصوص. بصراحة ولكن... من أشباه الموصّلات إلى التجارة الإلكترونيّة، أعلن الرئيس الصيني جي تشي بينغ بكلّ صراحة أنّه يسعى إلى جعل الصين «سيّدة تكنولوجياتها». وبين سطور الكلمات الصريحة، فهمت إدارة أوباما أنّ الحكومة الصينيّة تعتمد إستراتيجيّة هجوميّة تستعين في سياقها بكلّ السبل المتوافرة، وضمنها التلاعب المنظّم بالسوق، والعمل على سرقة الخبرة الأميركية بكثير من التعسّف، بل حتى إجبار بعض المؤسّسات على نقلها. وعند تلك النقطة، نفد صبر الولايات المتّحدة. وما عاد ممكناً أن تتحمّل تداعيات عدم الرد على تلك السياسة الصينيّة الهجوميّة. وبدا محتّماً لإدارة أوباما والكونغرس معاً النهوض بأمر الرد عليها. واستعانا بسياسة متماسكة قوامها مواجهة بنّاءة توظّف الموارد الحكوميّة كلها، كي توضّح للصين أنّ وصوليّتها على صعيد الإبداع، ستترتب عليها عواقب وخيمة. «تسلّل» إلى أشباه الموصّلات ببلايين الدولارات سرعان ما ظهرت أدلّة على حصول مشكلات في تنفيذ الرد الأميركي على الصعود الصيني في التكنولوجيا الرقميّة وعلومها، إذ تمكّنت الصين من مد أصابعها في دواخل شركة أميركيّة رائدة في قطاع أشباه الموصّلات («سيمي كونداكترز» Semi Conductors)، هي «وسترن ديجيتال» Western Digital المختصّة في التخزين الرقمي وأدواته وأقراصه وشبكاته المتنوّعة. واستغلت الصين علاقتها بالشركة كي تحاول خلسةً، التسلّل من أبواب خلفيّة، إلى شركات أميركيّة كثيرة أخرى. لم تكن الصفقة مع «وسترن ديجيتال» سوى حلقة أخرى ضمن سلسلة من 17 صفقة تملّك سعت الشركات الصينيّة إلى إبرامها في قطاع أشباه الموصّلات. واللافت أن مجموعة «تسينغهوا يونيغروب» الحكوميّة التي ترأسها في سنوات سابقة ابن الرئيس الصيني السابق هو جين تاو، قدّمت عرضاً ب23 بليون دولار في صيف 2016، لتملّك شركة «مايكرون تكنولوجيز» الأميركيّة. وسرعان ما انهارت الصفقة بعد ما أعرب اثنان من أعضاء الكونغرس من ولاية «إيدياهو» عن مخاوفهما بأن تمسّ الصفقة الأمن القومي. بالتالي، غيّرت «يونيغروب» مسارها، وراحت تعمل عبر شركة «يونيسبلندور» المتفرّعة منها للاستحواذ على حصّة 15 في المئة من شركة «وسترن ديجيتال». السطو على المعرفة غير قابلة للتوقّف في دليل واضح على أنّ ذلك الاندماج حصل بالقوة، فقد وافقت وزارة التجارة الصينيّة في 2012 بصورة بدت مفاجئة آنذاك، على استحواذ «وسترن ديجيتال»، على قسم الأقراص الصلبة في شركة «هيتاشي ليمتد». ويلفت أنّ الصفقة عينها جرت دراستها والموافقة عليها من قِبَل السلطات المنافسة في الولاياتالمتحدة وأوروبا وأستراليا واليابان. وواجهت الصين تلك القوى مجتمعة بالتحرّك ببطء وحذر عميقين. إذ عملت تدريجيّاً على منع «وسترن ديجيتال» من ادّخار مبالغ بقيمة 400 مليون دولار. ومع حلول عام 2016، باتت «وسترن ديجيتال» ثالث شركة تكنولوجيا معلومات عالميّة تقبل باستثمارات من مؤسسات حكوميّة صينيّة، بأمل نيل بعض من الأموال الصينيّة المتدفقّة إلى قطاع المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة في أميركا! وفي 2016 أيضاً، قبل أيام قليلة من الإعلان عن صفقة بين «يونيسبلندور» «وسترن ديجيتال» وشركة معلوماتيّة أميركيّة أخرى هي «يونيسبلندور»، التقى الرئيسان شي جين بينغ وباراك أوباما. وآنذاك، وعد الصيني نظيره الأميركي بالحدّ من موجة عمليات الاقتحام والسرقة عبر الفضاء السيبراني للإنترنت. ونقل أوباما إلى شي قلقه من سطو ال «هاكرز» الصينيّين على معارف تتصل بابتكارات ومنتجات وتقنيّات أميركية، وهي من أثمن ما تحوزه الصناعة الأميركيّة. وعلى رغم تعهّد صيني، اتّضح سريعاً أن ذلك النوع من القرصنة لم يتوقّف أبداً. واستطراداً، يعطي قرار ترامب بالتدقيق في ممارسات الصين التجارية والصناعيّة، انطباعاً بأنّ تلك القرصنة لن تتوقّف، أقلّه ليس في المدى المنظور.