كيف تمكن العملاق الألماني يوهان سيباستيان باخ من التعبير عما لا يوصف، مخترقاً بموسيقاه عالم الموت والإيمان، وكيف يمكن إنساناً يبدو كشخص عادي أن يبدع هذه الأعمال الموسيقية الكبيرة؟... أسئلة كثيرة حاول المايسترو البريطاني جون إليوت غاردنر الإجابة عنها في كتابه الجديد «موسيقى في قلعة الفردوس»، الصادر عن دار «نوبف». رحلة بحث غاردنر كانت طويلة ومضنية. خلافاً لموزارت، وبيتهوفن، وغيرهما من الموسيقيين الكلاسيكيين الذين خلّفوا وراءهم الكثير من الرسائل الشخصية، لم يترك باخ إلا القليل من الرسائل التي لا تكشف سوى جزء ضئيل عن شخصه. لم يسبق للموسيقي اللامع أن كتب مذكراته على رغم تلقيه طلبات كثيرة للقيام بذلك، فظلت شخصيته بعيدة من الأنظار والأضواء إلى أن رحل عن هذه الحياة ليكتشف العالم لاحقاً قيمة ما تركه من ابداعات ولتتوالى السير الذاتية التي تحاول كشف النقاب عن خفايا حياته. ليس مستغرباً بالتالي أن معظم كتاب سيرته الذاتية حاولوا تخيل حياة باخ من منظور حياتهم الخاصة. يوهان نيكولاس فوركيل، عازف الأرغن والقومي الألماني، اعتبر في سيرة كتبها عن الموسيقي العالمي عام 1802 أن باخ عازف أرغن موهوب ومواطن ألماني نموذجي ينتمي إلى الطبقة المتوسطة. في وقت لاحق، كتب الموسيقي اللامع فيليب سبيتا، الذي ولد لعائلة من علماء الدين وأصبح رائداً في مجال إحياء موسيقى الكنيسة اللوثرية، أن باخ هو الإنجيلي الخامس. بينما كريستوف وولف، العميد السابق لكلية الدراسات العليا في الآداب والعلوم في جامعة هارفارد، قدم باخ في كتابه على أنه موسيقي متعلم، اكتسب خبرته الموسيقية من خلال العمل اليومي. في كتابه الجديد، يقدم جون إليوت غاردنر صورة جديدة عن «المايسترو» باخ، مستدلاً بموسيقاه على الحالة النفسية التي كان يختبرها، وعن شعوره بالحزن أو الرضا أو الغضب عبر تصاعد نوتاته. في مزرعة عائلته في دورست، التقى غاردنر يومياً بيوهان سيباستيان باخ على درج منزله الداخلي. في مصادفة غريبة، أهدى لاجئ من سيسيليا آل غاردنر لوحة زيتية للموسيقي الألماني لإبقائها آمنة أثناء الحرب العالمية الثانية. تحمل اللوحة التي يعود تاريخها إلى عام 1748، توقيع الرسام المعروف الياس غوتلوب هوسمان، وهي واحدة من اللوحات النادرة والدقيقة التي رسمت لباخ في حياته. في سني حياته الأولى، كان غاردنر يشعر بالغرابة والخوف كلما وقعت عيناه على اللوحة، لكنه سرعان ما طور اعجاباً دائماً بباخ رافقه طوال مسيرته الموسيقية اللامعة. اليوم، يبلغ السير جون السبعين عاماً وقد قرر تقديم تأملاته عن باخ وموسيقاه في كتاب جديد من 629 صفحة، وبذلك لم يكتف فقط بإحياء موسيقى باخ عبر إعادة تقديمها على أهم المسارح العالمية برفقة كورس متميز. يصف غاردنر نفسه بأنه أسير أعمال باخ من الكانتاتا إلى الباسيون. وهو يعتبر أن هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي للكلمة، إذ سبق وأن صدرت كتب كثيرة عن حياة باخ، بل إنه محاولة لاكتشاف الموسيقي العبقري من خلال إرثه الموسيقي. في محطات كثيرة في حياته، ألف باخ الشعور بالألم والأسى وتجسد ذلك عبر المقطوعات الأولى التي كتبها. اختبر مرارة اليتم وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره. خسر الكثير من أحبائه، فرحلت زوجته الأولى، ماريا باربرا، بعد زواجه منها بثلاثة عشر عاماً. كان أنجب منها سبعة أطفال، ولكن شاء القدر أن يفقد أربعة منهم. زوجته الثانية، آنا ماغدالينا، أنجبت له 13 طفلاً، شبّ منهم ستة فقط وتوفي البقية وهم في سن الطفولة. مهنياً، أيضاً، كانت حياة باخ صعبة للغاية. قد يعتقد البعض أن عزفه المحترف على آلتي الأرغن والكمان، وانحداره من عائلة تضم عدداً من الموسيقيين المعروفين، سيمهدان الطريق أمامه للحصول على عمل مهم في عالم الموسيقى. لكنّ فرص العمل كانت محدودة جداً. في عام 1703 حين كان عمره ثمانية عشر عاماً وجد وظيفة للمرة الأولى كعازف كمان في بلاط أحد الأمراء الألمان، لكنه لم يشعر بأنه في مكانه المناسب. بعد سنوات قليلة، وجد نفسه عالقاً بين وظيفة في محكمة فايمار، وأخرى في كنيسة أرنستات حيث كان عازف أرغن مبتدئاً، فبدأ بكتابة أولى مؤلفاته الموسيقية الدينية. ولأن آلة الأرغن تعتبر ركيزة مهمة في الموسيقى الكنسية، فإن هذه الآلة حظيت بعناية خاصة منه، إذ ألف الكثير من القطع الموسيقية من نوع الفانتازي والبريلود والسوناتا التي عزفت وما زالت تعزف على الأرغن. آنذاك، تخبط باخ بين الوظيفتين حتى أنه سجن لفترة وجيزة عندما حاول ترك وظيفته في المحكمة، ليتمكن في النهاية من تكريس وقته وعمله للموسيقى فقط. لكن حياته العملية في الكنيسة لم تكن سهلة، إذ دخل في خلافات كثيرة مع العازفين في الكورس ممن أرادوا استفزازه لحضّه على المغادرة بعد أن لمع نجمه وتفوق عليهم بأشواط. اشتهر باخ بحساسيته المفرطة وتمرده ورفضه للغبن، ولعل ذلك يعود إلى الفترة العصيبة التي تعرض فيها للإساءة على يد بعض الأساتذة المتزمتين في المدارس الداخلية التي عاش فيها طفولته. ويشير غاردنر إلى أن باخ في تلك الفترة كتب بعض المقطوعات الموسيقية التي أظهرت غضبه مثل مقطوعة 135. في عام 1723 تقلد باخ منصباً مهماً حين أصبح المسؤول عن الموسيقى في كنيسة القديس توما اللوثرية في مدينة لايبزيغ، وبقي في وظيفته هذه حتى وفاته عام 1750. كان عليه أن يؤلف الألحان الغنائية والأناشيد الدينية لكنائس أخرى، إضافة إلى هذه الكنيسة وبالتالي كان وقته «يعج بالنوتات الموسيقية» على قوله. اختبر باخ إحباطات عدة. كانت علاقاته صعبة مع السلطات الدينية والدنيوية للمدينة، يضاف إلى ذلك أن الراتب لم يكن مرتفعاً أو أقله لم يكن على المستوى الذي يطمح إليه، ولم توفر له الجهات الكنسية المسؤولة المغنين والعازفين من الصف الأول الذين طلبهم لعزف موسيقاه، حتى أنها فرضت عليه التدريس لساعات، وكان يتعرض للقمع كلما أراد المغامرة في موسيقاه، وهو ما دفعه إلى محاربة مرؤوسيه والاستمرار في تحديث ألحانه. وقد أتاحت له تلك الفترة أن يحسن من نوتاته الموسيقية أكثر فأكثر، فألف الكثير من الألحان الرائعة التي تم انشادها في الأعياد المسيحية الكبرى كعيد الميلاد وعيد الفصح وعيد الصعود. إذاً، وعلى رغم الصعاب، كان باخ في المكان المناسب. هدفه النهائي، كما أوضح لأحد المسؤولين عنه، أن يؤلف «موسيقى جيدة ومنظمة للكنيسة لتمجيد الله»، فقد كان بروتستنتياً مؤمناً ومعجباً بعقيدة مارتن لوثر. ويؤكد غاردنر أن قرار باخ الابتعاد عن الأوبرا والتركيز على الموسيقى الدينية كان السبب الأكبر في ضمور شهرته بين موسيقيي جيله، لكنّ ذلك لم يؤثر فيه اطلاقاً. حتى أنه دخل في نزاعات كثيرة مع الموسيقيين الآخرين بسبب جديته الزائدة عن اللزوم وميله إلى الكمال في العزف الموسيقي، فلم يكن محبوباً بين زملائه الذين وجدوا فيه منافساً شرساً وصعب المراس. أما تلامذته فكانوا يخشون غضبه في حال خرجوا قليلاً عن النظام الصارم الذي أرساه.