يصعب الاختيار بين الحديث عن مقاربة محاضرة وزير الخارجية الأميركي ركس تيلرسون في معهد هوفر في جامعة ستانفورد في 17 الجاري، ووفاة 15 لاجئاً سورياً برداً، كانوا يحاولون التسلل إلى لبنان وعُثر على جثثهم قرب الحدود اللبنانية. فعلى الرغم من أهمية محاضرة تيلرسون كونها من المواقف النادرة التي تكشف عن رؤية أميركية تجاه الحرب السورية قد تؤشر إلى انخراط أميركي جدي لتسوية هذه الحرب التي دخلت عامها السابع، تبقى مأساة النازحين السوريين الذين قضوا بسبب الصقيع في الجبال اللبنانية مهمة إنسانياً وسياسياً. فهؤلاء ليسوا إلا عينة من آلاف السوريين الذين يعانون من المجزرة المستمرة في بلادهم جراء الطقس أو الفقر او البراميل المتفجرة والقصف بالغاز في أزمة إنسانية قل نظيرها، تدفع المرء إلى العزوف عن التفسير والتحليل التقليديين للحدثين وإلى الإقرار بأن المحاولات الجارية لتسوية النزاعات التي يشهدها الإقليم ليست اكثر من مهدئات لن تلبث أن تنتج مزيداً من الحروب والمآسي. أن مراجعة سريعة لبؤر النزاعات في المنطقة، من العراق إلى سورية واليمن وليبيا ولبنانوفلسطين، تؤكد عقم كل محاولات الحل. العراقولبنان على أبواب انتخابات من المرجح أن تكرس واقع غلبة فريق على فريق. أما في سورية فإن محاولات روسياوإيران، وعلى الرغم من التباينات التي يحكى عن وجودها بينهما، تهدف إلى تجديد الاستبداد وتمديده في هذا البلد، بينما الحلول لا تزال سراباً في اليمن وليبيا وبالأخص فلسطين. أن الشرق الأوسط بعامة ومناطق التوتر والنزاعات بخاصة تعاني مما يصح وصفه ب «الديبلوماسية التكتيكية» التي تمارسها قوى إقليمية ودولية، بعضها قد يربح اليوم إنما قد يخسر أيضاً غداً. فهي تتنافس في ما بينها على اكتساب النفوذ والسطوة على حساب دول المنطقة وشعوبها ومن دون أي اعتبار لمصالح دول المنطقة وحاجاتها الرئيسية. بل أكثر من ذلك، باتت خططها ومناوراتها وأساليبها سبباً إضافياً للمشكلات. اليوم، باتت الصورة اكثر وضوحاً: يتعرض الإقليم لانتهاكات على أكثر من صعيد في ظل عدم إلمام بحقيقة مشكلاته سواء من اللاعبين الخارجيين، وهم كثر، أو من الأنظمة الحاكمة واغلبها متسلط ومستبد. هل من سبيل للخروج من هذا النفق أو هذه الدائرة المغلقة، حيث تحمل التسويات في ثناياها بذور حروب ونزاعات جديدة؟ إن التطلع إلى مستقبل المنطقة وسط هذا الواقع المظلم يحتم معالجة أربع قضايا في آن واحد: أولاً: إفلاس الحوكمة إن معظم الدول العربية تعاني من غياب الحوكمة الفعالة يتمثل بفشل قيام مؤسسات سياسية صالحة تخدم الشعوب بواقعية ونضج ومسؤولية وانعدام المشاركة السياسية والتهميش وتفشي الفساد وسوء استعمال السلطة وتدخل القوى الأمنية والعسكرية في الحياة السياسية وهيمنة الانتماءات الفرعية على المواطنة الجامعة والتشدد الطائفي والمذهبي، إضافة إلى المناهج التربوية البائدة والسياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية غير المتجانسة والملتبسة وشحّ في الموارد الطبيعية لا سيما في الدول ذات الكثافة السكانية. باختصار، تشكل هذه المشكلات أو المعضلات مجتمعة كارثة محتمة. بالطبع سيعتبر الكثيرون هذا التوصيف بمثابة تنظير لا يقترح حلولاً آنية أو مستدامة لمآسي هذه الدول والشعوب. الجواب أن وضع حلول للمشكلات والأزمات لا يبحث على المستوى النظري عن الممكن وغير الممكن، بل يبحث عن الصواب، والصواب اليوم هو الاعتراف بضرورة التوصل إلى عقد اجتماعي جديد في هذه المنطقة يحول الحاكم إلى مؤسسات والشعوب إلى مواطنين،ودون ذلك، لن تنجح كل محاولات الإصلاح المطروحة أو المتداولة سواء أتت من الداخل أو الخارج. فالعقود الاجتماعية السارية اليوم في العالم العربي لا تلتزم قاعدة التعاقد لأنها لم تنشأ وفق إرادة الشعب ولا تعكس مكوّنات الأمة وثقافتها وحضارتها، كما أنها لم تأت في إطار التطور الطبيعي للمجتمع. وإلى جانب دور النخب الثقافي في صَوغ عقد اجتماعي جديد، من المهم توفير بيئة مناسبة لولادته تتلخص في ثلاثة أمور غابت عن التجربة السياسية العربية في القرن الأخير وهي الحرية والاستقرار وحسن تمثيل الشعوب. ثانياً: الدور الإيراني لا يخفى على احد انه منذ عام 1979 تاريخ الثورة الإسلامية في إيران، تلعب طهران دوراً في الإقليم هو موضع اختلاف بين مندد ومؤيد ، إنما لا يختلف اثنان على حجم التوغل والتمدد الإيراني في المنطقة، بدءاً بعلاقتها مع «حزب الله» في لبنان والحوثيين في اليمن وحركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي» في فلسطين، إلى جانب دورها المتنامي في العراق، وصولا إلى علاقتها الاستراتيجية مع سورية وتدخلها العسكري إلى جانب النظام. غالباً ما وصف محللون ومتابعون للشأن الإيراني السياسة الإيرانية في المنطقة بأنها «دفاع هجومي»، وحتى الساسة الإيرانيون تبنوا هذا المفهوم وباتوا يتحدثون اليوم عن الطبيعة الدفاعية لبرنامج الصواريخ الإيراني مثلاً بعد أن كانوا يتحدثون عن طبيعته الهجومية القائمة على الردع. قد تكون إرادة إيران في الدفاع عن نفسها مشروعة ولكنها لا تعبر قطعاً عن حقيقة دوافع سياستها في المنطقة التي قامت منذ أكثر من أربعة عقود على التسلل الثقافي والمذهبي إليها وخلق بيئات موالية لها عبر شبكات ثقافية واجتماعية واقتصادية نسجتها التنظيمات الخارجة عن الدولة التي أسستها، قبل أن تأتي بعدتها وعديدها العسكري إلى المنطقة. الطموح الإيراني في المنطقة يهدف إلى تعزيز نفوذها فيها من خلال إنشاء فضاء جيوسياسي تهيمن عليه ويمتد من العراق إلى سورياولبنان، وما التغييرات الديموغرافية التي شهدها في العراقوسوريا لصالحها سوى أداة لتنفيذ هذا الهدف. طموح إيران الجلي هذا، يبقى الفاصل بين سياسة للدفاع المتقدم التي تدعيها وبين التوسع الهجومي الذي تنفذه على أرض الواقع ضبابياً. بالنتيجة ومهما كانت أسباب السياسة الإيرانية في المنطقة، فان تنفيذها عبر بيئات شيعية محلية انتج التوتر المذهبي والطائفي الذي نشهده وأجج التطرف السني لا سيما العنفي منه بوجه التطرف الشيعي ومصدره إيران. لا يمكن تجاهل هذه المعادلة خصوصاً عند مقاربة مشكلة الجماعات الإسلامية المتطرفة المسلحة ومشكلة الإرهاب ومشكلة تنامي السلفية في العالم العربي. كما لا بد من الاعتراف بأن هذه الإشكالية وراء تسعير النزاعات في كل من لبنانوالعراق وسورية واليمن وحتى بعض دول الخليج العربي. وفي هذا السياق، ينبغي الاعتراف بتفوق السياسة الإيرانية وفعاليتها، في بدايات امتدادها في المنطقة، وذلك مقارنة بردود الفعل العربية آنذاك، إنما بالنتيجة كانت ولا تزال مسببا للكثير من الاضطرابات والفوضى وحتى الحروب التي يعاني منها الإقليم. ثالثاً : مستقبل إسرائيل في المنطقة على الرغم من الانكفاء الإسرائيلي المعلن عن النزاعات الجارية في المنطقة، فهذا لا يعني قبولها كدولة مشروعة في قلب العالم العربي. وعلى الرغم من كل التغيرات التي شهدها النظام الإقليمي بدءا من اندلاع الثورات العربية مروراً بانهيار الدولة الوطنية في أكثر من مكان وهيمنة التنظيمات المسلحة ومنها «داعش»، وصولاً إلى تصاعد نفوذ إيران والميليشيات الموالية لها، بقيت إسرائيل تعتمد سياسة «شراء الوقت» بالنسبة إلى القضية الفلسطينية. هذه السياسة لن تعمر طويلاً، ولن تلبث معضلات إسرائيل مع العالم العربي إن تظهر مجدداً بما أنها لم تقتنع بحتمية حصول الفلسطينيين على دولة مستقلة قابلة للحياة عاصمتها القدسالشرقية. تحقيق ذلك يستتبع تنازلات يبدو أن الإسرائيليين غير مستعدين لتقديمها. على الرغم من الإرث العدائي بين العالم العربي وإسرائيل، تخطى الرأي العام العربي مرحلة إلغاء إسرائيل من الوجود وبات العرب يدركون أنها واقع مر لا بد من التعايش معه ولكن في إطار حل عادل ضمن الشروط التي أسلفناها. في هذا السياق، على المجتمع الدولي استثمار هذه اللحظة التاريخية والضغط على إسرائيل للسير بهذا الاتجاه وإقناعها بأنها لن تعرف الاستقرار لا هي ولا دول الإقليم دون دون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية يقوم على مبدأ الدولتين. رابعاً: الأمن المائي يعاني الشرق الأوسط من قنبلة موقوتة هي نقص موارد المياه لا سيما في عدد من الدول التي تواجه تصحراً متصاعداً. إلى جانب فقر العالم العربي في مصادر المياه العذبة التي لا تتعدى 1 في المئة فقط من كل الجريان السطحي للمياه ونحو 2 في المئة من مجموع الأمطار في العالم، فإن غياب السياسات الفاعلة في هذا المجال تجعله لا يستغل سوى 50 في المئة فقط من هذه المصادر والباقي معرض للهدر والضياع، يضاف إلى ذلك الاستيلاء والاستغلال غير الشرعي لموارد المياه العربية. هذا الواقع قد يهدد الاستقرار الهش أساساً ويسبب حروبا وموجات هجرة يطال أثرها عدداً من دول المنطقة وبعض الدول الأوروبية. هذه الوقائع باتت تفرض على جميع الأطراف، لا سيما القوى السياسية في السلطة او خارجها كما النخب كافة والقوى الخارجية، تبديلاً سريعاً وملحاً في الأولويات والدوافع، والانتقال من السياسات القصيرة المدى والرؤية إلى استراتيجيات استشرافية بعيدة المدى قادرة على مواجهة المشاكل الرئيسة والبنيوية. حتى اليوم، لا تزال الديبلوماسية الدولية تجاه الإقليم تقرأ في كتاب قديم ولا تزال مثقلة بمصالح القوى الدولية والإقليمية، بحيث تعمل كل منها على ترتيب المنطقة لتصل إلى حالة من الاستقرار على مقاسها، أو إيجاد حالة من التوازن الهش يُبقي المنطقة على شفير الهاوية ريثما يتم تكييفها. كما فاجأ الربيع العربي الجميع قبل أن يتحول إلى خريف أو شتاء، قد نشهد حراكاً آخر وتشدداً عنيفاً أشرس وحرباً إسرائيلية قد تتحول إلى حرب إقليمية أوسع وموجات نزوح وهجرة أشد خطراً، تجعل كلها الانحلال والتفكك السمة الرئيسة لمستقبل هذه المنطقة. إن اللعب على حافة الهاوية يعرض الجميع للسقوط فيها، وعلى المجتمع الدولي ترويض بعض القوى الإقليمية التي خرجت عن السيطرة والضغط على القوى الدولية لتغير جيواستراتيجياتها والتقدم بحل إبداعي ينقل الشرق الأوسط إلى حالة تسمح له بطرق باب الحداثة. * إعلامي لبناني