يتحدث كثيرون عما أصاب «النظام الإقليمي»، خصوصاً النظام العربي، من تحولات منذ بداية القرن الحادي والعشرين خلال الفترة التي عُرفت باسم الربيع العربي. في الواقع لم يعرف الشرق الأوسط أو العالم العربي وجود مثل نظام إقليمي كهذا، سواء قبل انتفاضات الشعوب في بعض الدول العربية أو بعدها. كانت الدول العربية تأمل من خلال تأسيسها جامعة الدول العربية بأن تتوصل إلى بناء نظام عربي إقليمي، يقوم على توحيد السياسة الخارجية، ويساهم في بناء تعاون اقتصادي، وتوحيد الجيوش والقدرات الإستراتيجية لتحقيق دفاع عربي مشترك قادر على حماية الأمن العربي. لم يحدث ذلك وذاعت المحاولات نتيجة الانقسامات وتوزّع الدول العربية الرئيسية بين مختلف المحاور الدولية، إضافة إلى الانقسامات الإيديولوجية التي تراوحت ما بين الفكرة الرأسمالية والتيار الاشتراكي أو العودة إلى مفهوم الدولة الإسلامية. وهكذا رأينا التشتُّت العربي بين محاور عدة نذكر منها على سبيل المثال: المحور الناصري والمحور السعودي والمحور العراقي والمحور السوري والمحور الليبي. قامت ثورات الربيع العربي لأسباب داخلية لا علاقة لها بالمستقبل العربي أو بالسياسة الخارجية. حيث انطلقت الجماهير التونسية والمصرية والليبية واليمنية والسورية للمطالبة بحريتها وكرامتها وبحكم ديموقراطي يحل مكان الحكام المستبدين. ونجح الربيع العربي في قلب أنظمة تلك الدول باستثناء سورية، حيث استمر النظام المتمترس وراء الانقسامات المذهبية وقوى الجيش والاستخبارات الداعمة له في شن حرب مدمرة ضد شعبه، وفشلت القوى الشعبية في إنتاج قيادة بديلة قادرة على إنتاج نظام جديد يؤمن استمرارية السلطة ويحقق الأمن والاستقرار. لكن الانتفاضات العربية أدت إلى مزيد من الضعف في بنية الدول كما أصابت الجسم العربي العام بأضرار بالغة، وهذا ما دفع إلى مواجهة خطر تشظي الدول وتفتت الشعوب، وبالتالي فتح الباب أمام دويلات مذهبية أو اثنية مكان الدول الموحدة، وبالتالي انكشاف السقف الأمني لهذه الدول وبما يسهّل تدخّل القوى الدولية والإقليمية سياسياً وعسكرياً من أجل إقامة مناطق نفوذ خاصة بها. في ظل الحرب الباردة تقاسمت الولاياتالمتحدة مع الاتحاد السوفياتي النفوذ في الشرق الأوسط ولم تسمح القوتان بنشوء أي نظام إقليمي خاص في المنطقة على رغم المحاولتين اللتين قام بهما جمال عبد الناصر والشاه محمد رضا بهلوي. بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1989 وانتهاء الحرب الباردة بدأ مشروع «القرن الأميركي الجديد»، والذي عمل على تكريس هيمنته على منطقة الشرق الأوسط. في عهد جورج دبليو بوش رأت الإدارة الأميركية أن الحرب على الإرهاب واتهام العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل تعطيان المبررات السياسية والديبلوماسية لاستكمال الهيمنة على الشرق الأوسط من خلال احتلال العراق، والذي يمكن أن يؤدي إلى تهديد وإسقاط ثورة ايران، وذلك وفقاً لنظرية قدّمها أحد المحافظين الجدد دافيد ورمسر والتي تطرح إضعاف إيران وعزلها تمهيداً لإسقاطها خلال عقد من الزمن. ورأى ورمسر في كتابه الذي نشر عام 1999 أن عزل إيران ستكون له مفاعيل على حلفائها ضمن ما يُعرف ب «محور المقاومة» والذي يضم النظام السوري و «حزب الله» اللبناني ومنظمة «حماس» الفلسطينية. وانطلاقاً من المخطط الذي وضعه ورمسر لاحتلال العراق والتحضير لإضعاف النظام الإيراني وإسقاطه، وتفكيك «محور المقاومة»، وبعد الحرب الإسرائيلية على «حزب الله» في لبنان عام 2006، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مشروع الشرق الأوسط الجديد، مع وعود فضفاضة بمدى استفادة دول المنطقة سياسياً واقتصادياً من دخولها في هذا النظام الذي تهيمن عليه الولاياتالمتحدة، من دون منازع. فشلت الحرب في العراق في تحقيق أهدافها المرسومة، بعد أن عجزت القوات الأميركية في السيطرة وتأمين الاستقرار اللازم لإعادة بناء الدولة العراقية الجديدة. وتكبّدت الولاياتالمتحدة خلال سنوات الاحتلال خسائر فادحة بالأرواح، كما بلغت التكلفة المالية ما يقارب ثلاثة تريليونات دولار، وشكّلت التدخلات الإيرانية والسورية داخل العراق عنصراً أساسياً في مقاومة الاحتلال الأميركي وفي نشوء ونمو المجموعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية التي شكلت القوى «الفاعلة» ضد الهيمنة الأميركية. بعد ثماني سنوات قرر الرئيس باراك أوباما وقف هذا الاستنزاف في الموارد البشرية والمالية وفي هيبة الولاياتالمتحدة، بالانسحاب من العراق، مخلفاً وراءه فراغاً سياسياً وأمنياً، استغلته إيران بسرعة من أجل فرض نفوذها السياسي والأمني، وتحقيق مكسب استراتيجي من خلال فرض هيمنتها على هلال جغرافي يمتد من إيران عبر العراق إلى سورية ومنها إلى لبنان. ودفع سقوط مشروع الشرق الأوسط الجديد، بعد الانسحاب من العراق القوى الإقليمية الأخرى للبحث عن دور يحقق لها النفوذ. وهكذا رأينا تحركاً تركياً جديداً باتجاه المنطقة كبديل لمشروع الانضمام إلى أوروبا، بدءاً من الانفتاح على سورية والعراق ومنطقة الخليج. كما رأينا تحركاً خليجياً واسعاً من أجل تقوية الأوضاع الأمنية والسياسية في مجلس التعاون واليمن وباتجاه سورية ولبنان. وخشيت إسرائيل من نتائج هذا التمدد الإيراني باتجاه حدودها والذي ترافق مع لهجة التهديد العالية النبرة التي اعتمدها الحكم الإيراني في عهد محمود أحمدي نجاد، فلجأت إلى تضخيم أخطار امتلاك إيران السلاح النووي في محاولة لاستثارة إدارة اوباما لاعتماد الخيار العسكري لمعالجة هذا التهديد الشامل، لكنها فشلت في ذلك. وبدت أحداث الربيع العربي كأنها نتيجة مباشرة لتغيير موازين القوى التي تسببت بها الحرب في العراق، واتخذت الأحداث مساراً دراماتيكياً، لم يكن بوسع الولاياتالمتحدة التدخُّل من أجل عكس مسارها أو ضبط إيقاعها، وهذا ما دفع أوباما إلى اعتماد سياسة «غسل اليدين» من أزمات المنطقة بما فيها الحرب على سورية. تطورات الحرب في سورية في ظل رفض واشنطن التدخل، فتحت الباب أمام مختلف القوى الإقليمية الرئيسية للتدخل في مسارها. تدخّلت ايران بداية بواسطة الميليشيات التابعة لها ودعمت ذلك بتشكيلات من الحرس الثوري والجيش، كما تدخلت تركيا ودول الخليج من خلال دعم فصائل المعارضة المسلحة بالمال والسلاح. وتدخّلت إسرائيل في عمليات قصف انتقائية لحماية مصالحها بمنع نقل الأسلحة ل «حزب الله» في لبنان. واستغلت روسيا تطورات الأزمة السورية والغياب الأميركي شبه الكامل عن ما يجري فتدخّلت بقوة في الصراع السوري بتنسيق مع إيران ومع نظام بشار الأسد لمنع تحقيق انتصار المعارضة على الأرض. وكانت لروسيا حسابات جيوستراتيجية تتعلق بقرب أراضيها من الشرق الأوسط ولوجود سكاني إسلامي داخلها يصل إلى 15 في المئة، إضافة إلى البحث عن قواعد لها في شرق المتوسط. لم يكن التدخل الروسي حدثاً جديداً، بل يمثل عودة روسيا كلاعب إقليمي، وهو يشكل جزءاً من الحل في سورية كما يشكل جزءاً من المشكلة. لكن لا بد أن يدرك بوتين بأنه لن يكون قادراً على التفرُّد بالحل عسكرياً أو سياسياً كما يحاول منذ آخر أيلول (سبتمبر) 2015. ونظراً الى تعقيدات الوضع في سورية نتيجة الحرب بالوكالة المتعددة الأطراف الداخلية والإقليمية فإن البحث عن حل لأزمات المنطقة ولإعادة بناء نظام إقليمي متوازن، لا بد من انتظار عودة الدور الأميركي في ظل إدارة ترامب. ويؤمل أن لا يقتصر هذا الدور على محاربة الدولة الإسلامية، بل أن يبدأ بالأزمة السورية من خلال الحوار المجدي مع روسيا من جهة وإعادة بناء التحالفات اللازمة لحل الأزمات المتفجّرة، وتصحيح الخلل في موازين القوى الإقليمية من خلال ضبط إيقاع أدوار اللاعبين الإقليميين الرئيسيين.