لا يبدو أنّ الشهادة الجامعية بقي لها الأثر نفسه في حياة الشباب اللبنانيّ كما في السنوات الماضية، ففي كلّ عام تزيد نسب البطالة لتحقّق معدّلات قياسية بإعتراف حكوميّ مُعلَن. فبحسب وزارة العمل اللبنانية وصلت نسبة البطالة الى 16 في المئة خلال العام الحالي، وتخطّت نسبة ال50 في المئة في صفوف الشباب المقبلين على سوق العمل. وإذا كانت أبواب الهجرة مفتوحة لأعوام طويلة أمام الشباب اللبنانيّ، فهناك اليوم العديد من العوائق التي تحول دون إتمام مشروع الهجرة وتحديداً من الناحية المادية والأزمات الامنية التي يعاني منها كثير من الدول العربية المحيطة بلبنان. وبما أنّ أعداد الخرّيجين في الجامعات اللبنانية تفوق بكثير الوظائف المُتاحة لهم، يلجأ بعض الشباب الحاصلين على شهادات عليا تصل أحياناً الى الدراسات العليا الى العمل في مهن تُصنّف بالمتواضعة مقارنة بكفاءة هؤلاء الشباب ومؤهلاتهم العلمية. من قيادة السيارات العمومية الى تأمين أمن المطاعم ومراكز السهر وصولاً الى العمل في غسل الصحون والتنظيف وغيرها من الأعمال التي طالما إبتعد عنها الشباب اللبنانيّ مكرّساً نفسه للعلم والتقدّم، تصبح هذه الظاهرة يوماً بعد يوم واقعاً يُظهر عمق الأزمة الإقتصادية في لبنان. وربما ما زال الكثيرون لا يصدّقون رجل الامن الشاب الواقف قرب الملهى الليليّ حين يسألونه عن سبب إلتحاقه بهذه الوظيفة فيجيب: «درست إدارة الأعمال ولم أجد وظيفة في هذا المجال»، فالدهشة لمثل هذا الجواب تُعبّر عن حال إستغراب لدى اللبنانيين كما الأجانب السياح في لبنان تجاه النتائج المباشرة للعجز الماليّ الدائم في لبنان وغياب إستراتيجيات توظيف الشباب الجامعيّ. وتُعتبر هذه الظاهرة حديثة نسبياً في لبنان، فالشاب اللبنانيّ لم يكن يبدي أي إهتمام بمثل هذه الوظائف إنما يفضّل الهجرة حتّى لو إضطر الى قيادة سيارة عمومية أو التنظيف في البلد الذي يُهاجر إليه، فيما يحافظ في لبنان على مستوى إقتصاديّ واجتماعيّ يرفض التخلّي عنه. لكن «لقمة العيش باتت قاهرة» كما يقول فادي مطر، وهو شاب جامعيّ يقود اليوم سيارة والده العمومية للحصول على بضعة آلاف من الليرات لتأمين المأكل والدواء لأهله. ويروي فادي لكلّ من يركب سيارته سيرته والجهود التي بذلها خلال تعلّمه الجامعيّ من أجل الحصول على وظيفة تليق بإمكاناته فيحمي أهله من شبح الفقر. ويردّد فادي أنّه طالما سخر من مزاولة والده لمهنة قيادة السيارة العمومية عبر شوارع بيروت، وها هو اليوم يُضطر الى خوض المغامرة اليومية نفسها بحثاً عن الركّاب الذين يبادرون الى لومه فور ركوبهم في السيارة على ممارسته هذه المهنة فيما هو شاب صغير في العمر ويتمتّع بكلّ المؤهلات التي تسمح له بتحقيق الإنجازات. لكن فادي بات لا يأبه لمثل هذه التعليقات ويؤكد أنّ «من لم يذق طعم البطالة وأن يكون الفرد عاطلاً عن العمل فيما والديه مريضان لا يعرف معنى الفقر والحاجة». ومزاولة الشباب لهذه المهن التي تُعتبر غير مناسبة لمستواهم التعليميّ ترتبط أولاً بالحاجة الى تأمين دخل شهريّ ثابت إضافة الى الإستفادة من خدمات الضمان الإجتماعيّ. فوسيم النوّار الذي تخرّج منذ سنتين في إختصاص المحاسبة والتدقيق يعمل اليوم حارس امن في أحد الملاهي الليلية وهو لا يجد أنّه يقلّل من إمكاناته أبداً من خلال مزاولة مثل هذه المهنة إنما هو «يؤمن نفسه من الناحية المادية والصحية بعمله في الملهى». ويوضح وسيم أنّه يتقاضلى 500 دولار شهرياً ويستفيد من الضمان الإجتماعيّ لتأمين أدوية أمّه المريضة، في حين أنّه عمل في شركة محاسبة لفترة سنة كاملة من دون أن تقبل بتسجيله في مؤسسة الضمان وكانت الإدارة تقدّم له أعذاراً واهية في هذا المجال كي لا تضطر الى دفع رسوم إضافية لقاء عمله لديها. وكذلك فإنّ سائقي السيارات العمومية يستفيدون من تقديمات كاملة من الضمان الإجتماعيّ خصوصاً إذا كانوا مالكين للسيارة التي يقودونها خلال ممارستهم هذه المهنة، وبالتالي يجد الشباب سبيلاً لتأمين الخبز اليوميّ إضافة الى بعض المدخول الإضافيّ والقدرة على الإستشفاء وتأمين الدواء. وهذه العناصر الثلاثة باتت هي التي تحكم منطق إختيار المهنة التي يزاولها الشباب بدل معايير الكفاءة والإمكانات. إلا انّ الأزمة الحقيقية التي تتوّلد من مزاولة الشباب الجامعيّ لمثل هذه المهن تكمن في تخلّيهم عن طموحاتهم وقدراتهم لمصلحة تأمين القوت اليوميّ، اذ يكون الهمّ المعيشيّ هو الهاجس الأول لهم. وقليل من الشباب الذين يقودون السيارات العمومية أو يمارسون أي مهنة أخرى بعيداً من إختصاصهم الجامعيّ يفكّرون بالإستمرار في البحث عن الوظيفة المناسبة التي يمكن أن تكون باباً للتقدّم وإستخدام القدرات العلمية في مجال متطوّر، فالإستسلام الى الواقع يصبح هو سيّد الموقف. وبدل أن يكون شعار الشباب اللبنانيّ «لا عمل ولا أمل»، يُصبح هناك عمل ولكن الأمل بالتقدّم يصبح شبع معدوم، خصوصاً إذا بقيت الحكومات اللبنانية المتتالية مصرّة على سياسة تهميش الشباب اللبنانيّين بدل إعطائهم فسحة الأمل المطلوبة من خلال إيجاد فرص عمل مناسبة للمستوى العلميّ المتقدّم الذي يصلون إليه.