لا يبدو أن «4 نوفمبر» من العام الماضي، سيبقى كما كان، يوماً عادياً في أذهان السعوديين، ولا فندق «الريتز كارلتون» أيضاً، بعد أن غدا اليوم والفندق الشهير بفخامته الاستثنائية أيقونتين، للطريقة التي تعاملت بها السعودية في عهد قائدها الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان مع ملف «الفساد» بطريقة قلّ فيها الكلام وكثرت فيها العناوين والدهشة والتصفيق.لكن رسالة «الريتز» لم تلبث طويلاً في ردهات الفندق الوثير، إذ ما لبثت أن تناثرت بطحاؤها على رؤوس حتى الطلقاء من أرباب المال والتجارة والمسؤولية، فلم ينم بعدها قرير العين إلا كل خالٍ من أي فساد، واثق من أرقامه المصرفية، من أين وكيف وممن أتت؟ الجمهور السعودي، ظل يصفق بدهشة للخطوة، كل على طريقته، اتجه ليس فقط لجرد الحساب مع من تكهن بأنهم ملاحقون بتهم الفساد، ولكن جعل يستذكر آثار الوباء في حياته ومراجعاته وحاجياته، ويتساءل: هل كان ما واجه من صعوبات هنالك أو شح وظيفة هنا، أو سوء خدمات، كان سداداً لفواتير فساد أم أنها حالة صحية؟ وقلَّ أن تظفر جهة من البراءة الشعبية في حالة الجرد تلك، في محاسبة طاولت «كائناً من كان»، على خطى أمر 4 نوفمبر الملكي، الذي لم يجف حبره، حتى أصبح أرقاماً في البنوك وأشخاصاً في الحجز. وكانت الإجراءات التي أعقبت إصدار مرسوم إنشاء اللجنة العليا، برهنت على نفاد صبر القيادة السعودية الجديدة، نحو تغليب ضعاف النفوس حسب تعبير البيان «مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة، والعدوان على المال العام دون وازع من دين أو ضمير أو أخلاق أو وطنية، مستغلين نفوذهم والسلطة التي اؤتمنوا عليها في التطاول على المال العام وإساءة استخدامه واختلاسه متخذين طرائق شتى لإخفاء أعمالهم المشينة». وفي مشهد التفاعل مع الأمر الملكي كانت الأصوات الشعبية طاغية في التعبير عن أسباب بهجتها بالخطوة الملكية، فهنالك من يراها جسدت العدالة في إيقاع العقوبة على المفسدين كافة، وليست فقط معنية بصغار المتجاوزين، ذلك أن من يسميهم السعوديون ب«الهوامير» اعتادوا في مناسبات عدة الإفلات من العقاب، لاعتبارات عدة لم تعد اليوم في الحسبان، في وقت شدد فيه البيان الذي صاحب إنشاء اللجنة على السياق نفسه، مؤكداً أن الدولة لن تتوانى في «تطبيق الأنظمة بحزم على كل من تطاول على المال العام ولم يحافظ عليه أو اختلسه أو أساء استغلال السلطة والنفوذ فيما أسند إليه من مهمات وأعمال نطبق ذلك على الصغير والكبير لا نخشى في الله لومة لائم، بحزم وعزيمة لا تلين، وبما يبرئ ذمتنا أمام الله سبحانه ثم أمام مواطنينا». ولأن موجة الفساد العاتية، توظفها أطراف عدة، نبه القرار الملكي إلى أن التحركات في هذا الملف، إنما تستهدي بروح الشريعة التي نددت بالفساد والمفسدين في آيات مثل: «ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين»، وأحاديث نبوية، كان بين أشهرها قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، وهي استشهادات ذات مغزى، يفهمه القانونيون والمعنيون بروح الأنظمة والقوانين السعودية التي تستند جميعها إلى الكتاب والسنة، بحسب النظام الأساسي للحكم. وكانت السعودية أنشأت قبل بضع سنين هيئة لمكافحة الفساد (نزاهة)، إلا أن مطالبات عدة، اعتبرت تحركاتها خجولة مقارنة بانتشار وباء الفساد في المشاريع والجهات، تحتاج إلى تحرك جهات عليا، على النحو الذي تم. وهو التحرك الذي اعتبره البيان الملكي جاء بعد الإيمان بأنه «لن تقوم للوطن قائمة ما لم يتم اجتثاث الفساد من جذوره ومحاسبة الفاسدين وكل من أضر بالبلد وتطاول على المال العام». وفي أهم مناسبة أعقبت الحادثة، فسر الملك سلمان لدى تدشينه أعمال الشورى السنوية، لماذا شنت بلاده تلك الحرب الطاحنة ضد الفساد، الذي لفت إلى أنه لا يزال هو الاستثناء، وأن النزاهة هي الأصل في العاملين في المملكة مسؤولين ومواطنين أو مقيمين. وقال: «إن الفساد بكل أنواعه وأشكاله آفة خطرة تقوض المجتمعات وتحول دون نهضتها وتنميتها، وقد عزمنا بحول الله وقوته على مواجهته بعدل وحزم لتنعم بلادنا بإذن الله بالنهضة والتنمية التي يرجوها كل مواطن، وفي هذا السياق جاء أمرنا بتشكيل لجنة عليا لقضايا الفساد العام برئاسة سمو ولي العهد، ونحمد الله أن هؤلاء قلة قليلة». وأكد أن ما بدر من الملاحقين بتهم الفساد «لا ينال من نزاهة مواطني هذه البلاد الطاهرة الشرفاء من الأمراء والوزراء ورجال الأعمال والموظفين والعاملين على المستويات كافة وفي مختلف مواقع المسؤولية في القطاعين العام والخاص، وكذلك المقيمين بها من عاملين ومستثمرين الذين نعتز ونفخر بهم ونشد على أيديهم ونتمنى لهم التوفيق». وكان بين الخطوات التي اعتبرت من جانب الاقتصاديين لافتة، هي تعهد السلطات السعودية ضمان استقرار الاقتصاد السعودي، واستمرار الشركات العامة والخاصة للمتهمين، وتسهيل أعمالهم وتمكينهم من إدارتها عبر وكلائهم، حتى وإن كان الملاك قيد الاحتجاز. وهكذا مضت المعالجة من دون أي أثر يذكر على الاقتصاد الوطني.