سأظلّ مسكوناً بقضية «الأرشيف الوطني» والمكتبة الوطنية والمقتنيات الوثائقية، فلا تزال أمة العرب، ومن يشبهها، تعمل ليومها فقط، ولا تستفيد من تاريخها، أو من تجاربها، ولا من أرشيفها، هذا إن وجد لها أرشيف! فقد استمرتْ العادة العربية السياسية التقليدية، عند أكثر العرب، بالتخلص من آثار سابقيهم. يطمسون آثارهم، ويحرقون ملفاتهم، طمعاً في أن يبدأ التاريخ كلّه من بداية حكمهم. ووصل الأمر في بعض الدول العربية الأتوقراطية، أن تتهم كلَّ من يبحث عن الأرشيف العربي بالعمالة لجهاتٍ أجنبية! ونظراً إلى غياب الأرشيف العربي، في بلاد العرب، فإن الباحثين يسافرون إلى دول التوثيق والأرشفة وحفظ التراث، ليبحثوا عن أسرار وحقائق ووقائع العرب. من المعروف أن لكل دولة فترةً تاريخية، يظلّ فيها الأرشيف طي الكتمان، وما إن تنتهي فترة السرية، حتى يطرح الأرشيف أمام الباحثين والدارسين، ليخضعوه إلى المشرحة البحثية، وحينئذ تظهر الهفوات، ومواطن القوة، ويظهر الأبطال والبطولات، وتزدهر صناعة «الوجبات» الثقافية والفنية والسياسية، من وصفات الأرشيف وأخلاطه السرية، ويمكن توزيع الثمار والمأكولات الأرشيفية على المدارس والجامعات والمعاهد والمؤسسات ومراكز الدراسات والأبحاث وغيرها. ولا أزال أرى في إسرائيل - على رغم أنني سأظل أعتبرها دولة احتلال وقمع - أنها الدولة الأكثر استفادة من نظام الأرشفة، وقد اعتدت أن أتابع أرشيفها لأعثر على مواطن قوتها وضعفها. وكمثال فقط على أهمية الأرشيف في إسرائيل، فقد نشرتْ صحيفة «هآرتس» في 12/5/2011 تحقيقاً، لمناسبة احتفالها بإعلان الدولة، منذ 63 سنة، مقارنةً بين صادرات إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 وحتى اليوم جاء فيه: إن عائدات الصادرات الإسرائيلية من سنة إعلان الدولة 1948، وحتى اليوم قد ارتفعت بنسبة 13400 في المئة. وكانت صادرات إسرائيل 2,8 مليون دولار وأصبحت اليوم 8,9 بليون دولار أي خلال 63 سنة. كانت صادرات إسرائيل إلى آسيا 1 في المئة فقط عام 1950. أما اليوم فتبلغ 24 في المئة. كانت أول معاهدة تجارية وقعتها إسرائيل مع المجر 1949، وزودت المجر إسرائيل باللحوم المحفوظة والحبوب والآلات الصناعية، وفي المقابل زودت إسرائيل هنغاريا بمواد الطلاء، والكيماويات والخيوط والحمضيات. ستبلغ نسبة الصادرات من إسرائيل هذا العام 86 بليون دولار بزيادة 7 في المئة. أليست هذه القبسة الأرشيفية إشارة إلى التحول السريع، والقفزة الاقتصادية الهائلة لإسرائيل؟ إذاً... لغة الأرشيف أكثر إقناعاً من كل أغاني وأناشيد طلاب المدارس العربية، في الطابور الصباحي. وأفضل كذلك من المواد الجغرافية والتاريخية المضلِّلَة، والتي تقول: «الدول العربية تتمتع بثروات اقتصادية هائلة». بينما يعيش الطلاب العرب في فاقة وبؤس ومرارة، وبعد انتهاء الدرس، يخرجون من فصولهم الدراسية، فيكتشفون أن مأكولاتهم وملبوساتهم ومقتنياتهم، مصنوعة كلها في غير بلدانهم العربية!