شكّل استدعاء أنقرة سفيري روسياوإيران لديها للاحتجاج على خرق قوات النظام والميليشيات الإيرانية اتفاقات خفض التصعيد في إدلب، سابقة في العلاقات التركية مع كل من روسياوإيران، بعد الانعطافة التركية التي توّجت بتوقيع اتفاق أنقرة لوقف إطلاق النار في نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2016 برعاية روسية- تركية وانطلاق اجتماعات آستانة التي فصلت بين المسارين العسكري والسياسي في المسألة السورية، برعاية أنقرةوموسكو وضمانتهما، ضُمت إليهما إيران لاحقاً، لتسفر الآلية عن تفاهمات بين الدول الثلاث على مناطق «خفض التصعيد أو التوتر» التي من المفترض أن ينخفض فيها مستوى «العنف»، لكن هجمات بقايا قوات النظام وميليشات حزب الله والميلشيات الأخرى، التي دفع بها نظام الملالي الإيراني في الحرب إلى جانب نظام الأسد، استغلت الاتفاقات وشنت هجمات متكررة على هذه المناطق، على نحو ممنهج، الأمر الذي أفضى إلى قضم مزيد من المناطق التي كانت تسيطر عليها فصائل الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية المعارضة، إلى جانب استمرار حصار العديد من مناطق سيطرة المعارضة، وخاصة غوطة دمشقالشرقية، التي باتت تعاني نتيجة الحصار والقصف والهجمات من كارثة إنسانية فظيعة. وعلى رغم كل ما حصل من تقارب روسي- تركي، فإن هجوم بقايا قوات النظام والميليشيات الإيرانية على إدلب والتقدم باتجاه مطار أبو الظهور العسكري، أعاد الأمور خطوات إلى الوراء، خاصة بعد اتهام وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو روسياوإيران بالوقوف وراء هجوم قوات النظام، وتحميلهما مسؤولية الانتهاكات، واعتبر أنه «لولا الدعم الإيراني والروسي، لما تجرّأ النظام السوري وقام بهذه الانتهاكات، فهو لا يستطيع التحرك بمعزل عن إيرانوروسيا». ويهدف النظام وحلفاؤه في النظامين الروسي والإيراني من الهجوم على محافظة إدلب السيطرة على مطار أبو الظهور العسكري الإستراتيجي، الذي يعتبر من أكبر المطارات العسكرية في سورية، وزيادة مساحة سيطرة ميليشياته والمليشيات الإيرانية، وتحويل هذا المطار قاعدةً عسكرية لها، تؤمن الطريق الدولي من حلب إلى دمشق. وهذا سيؤثر في أي تسوية سياسية آتية، لكن الأهم هو أن السيطرة على مطار أبو الظهور يمكّن النظام وحلفاءه من محاصرة فصائل المعارضة في الشمال السوري، وتأمين قصفها بواسطة ثلاثة أكبر مطارات عسكرية، تتوزع من جهة الغرب على مطار حميميم، ومن الوسط مطار أبو الظهور، ومن الشرق مطار النيرب العسكري في ريف حلب. «الحوار الوطني» يأتي ذلك في وقت تجري موسكو تحضيراتها لعقد مؤتمر سوتشي لما يسمى «الحوار الوطني السوري»، علماً أن تركيا تبدي رفضها مشاركة أي عضو من حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية، لذلك ركّز جاويش أوغلو على أن بلاده ستتشاور مع روسياوإيران بشأن الجهات التي ستشارك في المؤتمر، معلناً أنه لن يشارك أحد في المؤتمر من دون إجماع الدول الثلاث على قبول مشاركته. كما ركز على «أهمية توسيع نطاق المعارضة والتمييز بين المعارضة الحقيقية والمزيفة»، وهذا بعكس الرغبة الروسية التي تريد إشراك معارضة مزيفة تقبل بوجود الأسد. ولم يخف الوزير التركي مساعي بلاده الرامية إلى عقد اجتماع لوزراء خارجية الدول ذات الرؤى المشتركة حول القضية السورية، وذلك عقب انعقاد مؤتمر سوتشي، وأراد بذلك توجيه رسالة إلى موسكو، مفادها أن بلاده تبحث عن مسارات وخيارات بديلة. ولعل الإفصاح التركي عن ممكنات انعطافة سياسية جديدة، جاء بعد شعور الساسة الأتراك بأن ساسة نظام الملالي وساسة موسكو لا يحترم أي منهم التفاهمات المعقودة، وأنهم لا يأخذون الهموم والمطالب التركية في الحسبان، خاصة بعد تسريب موسكو أنباء عن دعوة 155 ممثلاً لما يسمى «الإدارة الذاتية» إلى مؤتمر سوتشي، الأمر الذي اعتبرته أنقرة استفزازاً لها، لأن تلك الإدارة أنشأها حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في المناطق التي يسيطر عليها في الشمال السوري، ما يعني محاولة روسية للالتفاف على المطلب التركي في عدم مشاركة أي ممثل عن هذا الحزب في مؤتمر سوتشي، وتزامن ذلك مع تحضيرات للهجوم على إدلب. واستدعى كل ذلك رداً قوياً من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي أعلن من تونس أنّ بشار الأسد، «إرهابي مارس إرهاب الدولة ضدّ شعبه، بالتالي لا يمكن أبداً مواصلة الطريق مع الأسد في سورية، لماذا؟ لأنه لا يمكن المضي مع شخص قتل قرابة مليون مواطن من شعبه»، وأكد أنه «لا يمكن التوصّل إلى حلّ في سورية في ظلّ بقاء الأسد». ويبدو أن فرص عقد مؤتمر سوتشي في موعده باتت ضئيلة، وذلك في ضوء الخلاف التركي الروسي وإصرار النظام الإيراني على المضي قدماً في الحسم العسكري، لأن الأهم بالنسبة إلى الساسة الأتراك هو موضوع ما يسميه أردوغان «الممر الإرهابي»، حيث تتحضر تركيا عسكرياً منذ مدة لدخول منطقة عفرين التي تسيطر عليها ميليشيات تابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي، بينما تنسق موسكو مع هذا الحزب عسكرياً وسياسياً، وترغب في إشراك ممثلين له، ولو في شكل غير مباشر، في مؤتمر سوتشي، الأمر الذي تعارضه تركيا بشدة. كل ذلك يدعو إلى التساؤل عن تفاهمات الضرورة التي بناها الساسة الأتراك مع كل من ساسة روسياوإيران حيال الوضع في سورية، التي لم تتحول إلى تفاهمات صلبة أو استراتيجية، خاصة أنها جاءت بعد تردي علاقات تركيا مع الولاياتالمتحدة الأميركية في شكل خاص، والدول الغربية عموماً، حين شعر الساسة الأتراك بأن ساسة الغرب قد تخلوا عنهم، وراحوا يقدمون الدعم لما يسمى «قوات سورية الديموقراطية» التي يشكل عمادها ميليشيات «وحدات حماية الشعب» الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية الذي يعتبره الساسة الأتراك منظمة إرهابية، بوصفه الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي الإرهابي أيضاً بالنسبة إليهم، الأمر الذي يشكل تهديداً للأمن القومي التركي. ولم يجد الساسة الأتراك سبيلاً سوى إحداث انعطافة في سياستهم الخارجية، وخاصة حيال الوضع في سورية، فاتجهوا نحو موسكو وطهران علهم يجدون سنداً، أو على الأقل يجدون من يدعم دورهم، الأمر الذي التقطه ساسة موسكو وطهران، فجرى تطبيع العلاقات بين روسياوتركيا خلال فترة وجيزة، وتحولت من العداء إلى التفاهم والتنسيق، واعتبرت وقتها موسكو أن كسب تركيا ذات الدور الإقليمي المؤثر، وخاصة في الوضع السوري، والعضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، يعدّ انتصاراً لسياستها في منطقة الشرق الأوسط. غير أن الصورة لم تعد كذلك، إذ أن الخلافات بين الروس والأتراك سرعان ما طفت على السطح بالرغم من التفاهم والتنسيق في مسار آستانة بخصوص الوضع في سورية، فتبادل ساسة البلدين تصريحات تذكر بالمرحلة التي أعقبت إسقاط طائرة «سوخوي 24» الروسية في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، وذلك من خلال تصريحات سيرغي لافروف التي مهدت للهجوم على محافظة إدلب، ولمّح فيها إلى دعم تركي ل»جبهة فتح الشام» أو «جبهة النصرة» سابقاً، عندما أعلن في 27 كانون الأول (ديسمبر) الماضي أن «المهمة الرئيسية لمحاربة الإرهاب هي دحر «جبهة النصرة»، التي تبدي مقاومة بفضل الحصول على دعم من الخارج، حسب معلوماتنا»، في اتهام مبطن لتركيا. وفي اليوم نفسه، أعلن رئيس أركان الجيش الروسي فاليري غيراسيموف أن «المهمة الرئيسية في سورية لعام 2018 هي تدمير مسلحي جبهة النصرة الذين ينتشر بعضهم في مناطق خفض التصعيد». اتهام المعارضة المعتدلة ولم يتوقف الاتهام الروسي لتركيا عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى اتهام وزارة الدفاع الروسية تركيا بالوقف وراء الهجوم بواسطة طائرات مسيّرة «دون» على القاعدة العسكرية الروسية في مطار حميميم والقاعدة البحرية الروسية في طرطوس، إذ تخلت عن إعلانها أن الطائرات التي هاجمت حميميم انطلقت من مواقع تسيطر عليها القوات النظامية، وأطلقت فرضية جديدة تزعم فيها أن الطائرات المسيرة التي هاجمت قاعدتي حميميم وطرطوس «انطلقت من جنوب غربي منطقة خفض التصعيد الخاضعة لتشكيلات مسلحة تابعة للمعارضة السورية تعتبر معتدلة»، في دلالة واضحة على تزايد الخلافات بين أنقرةوموسكو. ولم تكتفِ وزارة الدفاع الروسية بذلك، بل بعثت رسالتين إلى كل من رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة التركية خلوصي أكار ورئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان، أكدت فيهما ضرورة التزام كل طرف مسؤولياته. واضطر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للاتصال بنظيره الروسي فلاديمير بوتين لتذليل حدة الخلافات والاتهامات بين الطرفين، وإن كان بوتين قد أي مسؤولية للطرف التركي بالهجمات على قاعدتي حميميم وطرطوس، مكذباً بذلك اتهامات وزارة دفاعه، إلا أن ذلك لن يفضي إلى ردم الخلافات بين الطرفين، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل من جديد عن مصير التفاهمات التي بنتها تركيا مع روسياوإيران، وما الذي ستؤول إليه الأمور في حال تصاعد حدة الخلافات بينهما، وكيف سينعكس كل ذلك على الوضع في سورية؟ * كاتب سوري مقيم في تركيا