دخل الربيع العربي حيّز التنفيذ في المنطقة التي تقبع فوق صفيح مُشتعل بنسب متفاوتة وكُلٌ على شاكلة ثواره وثورته، فمنها من اقتلعت الأنظمة من جذورها ووضعت الوطن على سكة جديدة نحو الربيع المنتظر. ومنها من تهز عروش الأنظمة في أقطارها هزاً عنيفاً وعميقاً لامس حدود الترنح والسقوط. ومنها من يسير بكفنه هاتفاً لحريته وكرامته وعزته متحدياً غدر الرصاص وهول الموت، مواجهاً بصدره العاري قدراً لا محالة من وقوعه، فإما رغد العيش وهناؤه وإما سكون الموت وسلامه. ومنها أيضاً وأيضاً من يجلس في بيته كاظم الغيظ متسمرّاً أمام تلفاز ما عاد يطيق صوت الماضى وصورته فراح يبدل صور الأحرار تباعاً من المضيق إلى المضيق ودماؤهم تسيل وأصواتهم تصدح وقلوبهم تخفق للحرية. إن مجرد المطالبة بالحقوق السياسية أوالمعيشية في عالمنا العربي مرفوض بالمطلق تحت ذرائع متعددة ومتنوعة ومنها ما يُسمى «قدسية الأولويات» التي عكفت الأنظمة الديكتاتورية على استعمالها كواجهة شرعية لعمليات القمع الوحشي وربما الإبادة الجماعية، من واجهة الممانعة والمقاومة مروراً بواجهة الاعتدال ومحاربة الإرهاب والتطرف وصولاً إلى حياكة الأساطير التي تتحدث عن مؤامرات مزعومة. بيد أن كل تلك الأولويات يجب أن تنطلق من قاعدة سليمة وطبيعية حيث إن العلاج يبدأ من أصل المشكلة لا من نتائجها وبالتالي فإن علاج النتائج يأتي كمن يضع العربة أمام الحصان، فهذه المنطقة التي غابت طويلاً عن مسار الحضارة والتقدم، حضرت دائماً في صلب الحروب العبثية والخلافات الشخصية والنزاعات العرقية والطائفية فأضحت بيئة حاضنة ومصدرة للأفكار المسمومة والعقائد المغلوطة والقاتلة ناهيك عن تغذية القوميات المزيفة ونشر الشعارات الفارغة التي أمعنت في تضليل المجتمع والأمة وسارعت إلى عسكرتها تحت عناوين براقة تمهيداً لإحكام السيطرة عليها بيد من حديد عبر قمع الأفكار والآراء ودوس الكرامات والحريات. حينما تدخل الأساسات الطبيعية للعمل السياسي المتنوع في عالمنا العربي حيّز التنفيذ بدءاً من القاعدة وصولاً إلى رأس الهرم عبر نظام ديموقراطي حر يعتمد الحد الأدنى من الشفافية والتجرد يُصبح بإمكاننا الحديث عن حلول جذرية لمشكلات أساسية عصفت بالمنطقة والعالم ولم تزل منذ نصف قرن ونيف، فالحرب والسلام، الاعتدال والتطرف، المقاومة والممانعة... إلخ، عبارات كانت وستبقى فارغة المضمون ما لم تُقرن بحلول جذرية تبدأ بالحرية والديموقراطية ولا تنتهي بالمحاسبة الشعبية عند كل استحقاق، وهنا لا بد من استعادة بعض الشواهد التي جثمت طويلاً على صدر التاريخ العربي، ففي عام 1986 رفض وزير الدفاع الإسرائيلي إسحق رابين إجراء إنتخابات ديموقراطية في الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 متذرعاً بقضية «السلام» التي قد تتأثر سلباً مع أي إجراء من هذا النوع، ويضيف مستغرباً، كيف يحق للعالم أن يُطالب بانتخابات ديموقراطية في الأراضي المحتلة بينما لا يوجد في العالم العربي برمته رئيس بلدية واحد منتخب بحرية. وفي حادثة مُشابهة وأثناء عملية التفاوض بين سورية وإسرائيل قال بنيامين نتانياهو للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد: أنا لا يمكنني أن أتنازل عن أي شيء لأنني مُنتخب بنسبة 51 في المئة أما أنت فيمكنك أن تتنازل عن كل شيء لأنك منتخب بنسبة 99 في المئة! ليسلك العالم العربي طريقه نحو الخلاص لا بد من تغيير جذري لقواعد اللعبة وإعادة خلط الأوراق في المنطقة لتقول الشعوب كلمتها وتنعم المجتمعات بهامش واسع من حرية التعبير والتفكير والاختيار. أما نحن في لبنان، فعلينا أن ننحاز وندعم ثورات الشعوب فلا مجال اليوم لمناورات سياسية تحت عناوين مختلفة ولا إمكانية للحياد في معركة المصير المشترك. حان الوقت لنسمي الأشياء بأسمائها ونضع اليد على الجرح الذي طال نزفه. لم يعد هناك مكان للصمت والاختباء، الحرية وحدها تصنع المجد وتبني الأوطان لم يعد هناك مكان للزعيم الواحد والقائد الخالد والعقول الرجعية البائدة في منطقتنا، فها هو التغيير يدق أبوابنا وها هو التاريخ يكتب في صفحاته المجيدة عن شعوب ضاقت عليها الأرض بما رحبت فنفضت عنها الغبار وثارت لتتنشق (ونحن معها) عبق الحرية وعبير الحياة.