ما حدث بعد الثورات في البلدان التي حدثت فيها حقاً ثورات ولم تتحول الى حروب وانقسامات أهلية أو مناطقية، يبعث على الخوف والقلق ، لا من الثورات بل عليها. فما يُسمى «الثورة المضادة» حقيقة قائمة لا مجرد أضغاث مخاوف وأوهام، ولعل نُذر الفتن الطائفية والمذهبية التي بدأت تطل برأسها هنا وهناك هي المثال الحي على ما يمكن أن يعترض طموحات الشعوب وأحلام الثوار، علماً أن الصفة الأخيرة باتت توُزع مجاناً وبلا حساب، والأنكى أن بعض مانحيها لم يثر يوماً على سائد أو واقع حال بل ساهم في تكريس الجهل والتخلف وتشجيع التيارات الماضوية والعصبيات القاتلة. لتكون الثورة حقاً ثورة، عليها أن تكون نقيض ما تثور عليه لا مجرد بديل له أو عنه. فما نفع استبدال استبداد بآخر، أو إحلال شمولية مكان أخرى، أو تحوّلُ بعض «الثوار» الى أنصاب جديدة لا تُمَسُّ ولا ترضى نقداً أو ملاحظة ولا تقبل حواراً أو اعترافاً بآخر غير ذاتها المتورمة في المرآة. أليس مأزقنا مع أنظمة الاستبداد أن جُلّها قام باسم الثورة والتغيير والتقدم والحرية، وكلّها شعارات أمست نقيضها ما أن وصل دعاتها الى الكرسي والتصقوا بها. ليس تيئيساً ولا تبخيساً لأحلام الشعوب وتضحياتها وحقها في الحرية والعدالة والمساواة والحياة الكريمة، وجميعها يستحق لأن ما من أبناء ست وأبناء جارية في هذا المضمار، بل في كل مضمار. لقد ولى زمن الجواري والرقيق وما عاد في إمكان «السادة» استعباد الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً على قول ابن الخطّاب. إنها مجرد مخاوف مشروعة على الحرية نفسها لأنها قطعاً في خطر ما لم تقترن بقبول الآخر وتتسع لكل الفسيفساء المكونة لبلادنا. تقول المناضلة الأممية روزا لوكسمبورغ: «حرية الرأي هي حرية الرأي الآخر»، إذ لا حرية بلا الآخر مهما تزينت بالشعارات والقصائد والأغاني. لأن المحك الفعلي هو السلوك والممارسة وقبول الآخر فعلاً لا قولاً. ونافل القول إن المجتمعات التي نهضت وتقدمت وتبوأت مكانة رفيعة بين الأمم هي تلك التي حفظت تنوعها وحرصت عليه واحترمته وقدّرته بوصفه نعمة لا نقمة ومصدر غنى إنساني على المستويات كافة. التنوع شرط التقدم، بل شرط التغيير والانتصار، كلُّ رفض له هو نكوص ونكوث، وَعَودٌ على بدء الجهل والتخلف والظلم والظلامية والاستبداد. ولعل ما شاهدناه وسمعناه وتابعناه بحُبّ وشغف في «ميدان التحرير» القاهري أيام الثورة كان المثال الرومانسي الأبهى للثورة الفعلية التي تتسع لشرائح الشعب والمجتمع كافة. فلا فضل هنا لمواطن على آخر، ولا ميزة لديانة أو لطائفة أو لمذهب أو لمنطقة أو لفئة طالما الجميع مُتحد في مصهر الثورة ومطهرها. لذا فإن الحفاظ على منجزات الثورة يكون حكماً باستعادة تلك اللحظة البهية، لحظة الثورة نفسها وما تختزله من فيض مشاعر تُوّحدُ الناس. ربما لتنتصر الثورة، أي ثورة، عليها أن تبقى ثورة مستمرة... لئن كان الاستبداد آحادياً وشمولياً وإلغائياً بطبعه وطبعيته، فإن الحرية تعددٌ وتنوعٌ وغنى حضاري وثقافي وفكري وعقائدي، وكل سعي الى التغيير مهما كان مُحقاً ومشروعاً لا يحترم في الحرية تعددها وتنوعها يغدو محاولة لاستبدال طغيان بآخر. رفض الظلم والاستبداد يفرض على رافضيه والثائرين عليه تقديم نماذج مضادة ونقيضة له، لا بدائل ونظائر له. المطلوب رفض كل أحادية سواء أكانت سلطة أو معارضةً مهما جرى تلميعها أو حتى تثويرها أحياناً! كي لا تضيع تضحيات الناس وحقوقهم المشروعة في الحرية والعدالة الواجب احترام الناس، كل الناس وقبولهم متساوين في الحقوق والواجبات في معزل عن كل شرط أو انتماء سوى شرط المواطنة.