تحوّل كتاب «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية» للناقد والأديب السعودي عبدالله عبدالجبار، الذي غيبه الموت قبل أيام، فور صدوره في 1959 مرجعاً مهماً وأساسياً لا غنى عنه، للإلمام بالتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والأدبية في السعودية في تلك الفترة الباكرة. وشكل الكتاب، من ناحية ثانية، مرآة لصاحبه وللحقبة التاريخية التي عاش في كنفها، فعكس التأثيرات التي ألقت بظلالها على الشاب الذي كانه، سواءً ما تعلق بالأفكار، قومية أو يسارية، أو بمناهج النقد وطريقتها في قراءة النص على ضوء معطيات الواقع. وعلى رغم صدور الكتاب في مرحلة باكرة، فإنه نمّ عن آلية تفكير شغوفة بالمنهج العلمي والمقاربة السوسيوثقافية، وعبر عن جرأة سياسية وفكرية، فضلاً عن معرفة واسعة ومتداخلة. اُعتبر الكتاب رائداً في مجاله وعلامة فارقة، جمع فيه عبدالجبار(19192011) خلاصة خبرته النقدية، التي اكتسبها خلال عيشه في القاهرة، فتتبع ظهور تيارات في تجارب الشعراء السعوديين، كشفت بدورها عن حضور للأفكار الحديثة في قلب الجزيرة العربية، التي لم تكن منبتة الصلة وقريبة مما يعتمل في الثقافة العربية، على المستوى السياسي والفكري والأدبي، ما دفع ببعض النقاد والباحثين إلى أن يعتبروا عبدالجبار من رواد علم الاجتماع الأدبي، «الذي يهتم بدراسة المؤثرات الاجتماعية والتاريخية والحضارية والبيئية على الأدب، الذي تنتجه بقعة من بقاع الأرض»، بحسب الناقد نبيل راغب في دراسة مهمة له حول عبدالجبار، نشرت في المجموعة الكاملة التي صدرت قبل وفاته بسنوات. راغب أيضاً أوضح أن الناقد «ليس مجرد محلل أو مفسر للأعمال الأدبية والفنية، «بل هو قائد فكري بمعنى الكلمة، قائد يسعى لصياغة وجدان أمته وفكرها». تحمس عبدالجبار، أثناء إقامته في مصر، للقومية العربية ودعا إلى «الوحدة الكبرى»، وترك نفسه للتيارات الفكرية والسياسية، لتؤثر فيه وتعمق من رؤيته، حتى كانت نكسة 1967، ووقع أحد ضحاياها إذ اعتقله الرئيس جمال عبدالناصر قرابة عام، مع بعض أصدقائه الذين كانوا يزورونه في شقته في «الجيزة» التي حولها إلى صالون ثقافي، راح يستضيف فيه مفكرين ومثقفين لهم مواقف فكرية وسياسية، رأى فيها النظام خطراً عليه، فاتهموه بتدبير انقلاب سياسي. أصابه الاعتقال بخيبة عميقة وتسببت له باليأس من أي تغيير. لم يرجع إلى السعودية، وفضل السفر إلى بريطانيا، وهناك عاش حياة متواضعة، وحتى ينفق على نفسه اشتغل معلماً لأبناء الجاليات العربية، وبقي كذلك إلى أن اختير ليؤسس أول مدرسة عربية في لندن وأوروبا، تابعة للسفارة السعودية في لندن. وعدا رفقة الكتب والبحر، عاش عبدالله عبدالجبار وحيداً ردحاً طويلاً من الزمن، مداوماً على القراءة والكتابة وتأمل العالم من حوله، ولم يتزوج ولم يكوّن عائلة، وبقي عازباً طوال حياته التي امتدت إلى أكثر من تسعين سنة. ألف عدداً من الكتب في النقد والقصة والرواية والمسرحية والمقالة، بيد أن كتاب «التيارات» بقي بجزءيه حول الشعر والنثر، أشهرها وأهمها، ولعله الكتاب الذي سيجعله حاضراً دوماً حتى بعد رحيله. ينتمي عبدالجبار، الذي ولد في العام 1918، إلى أسرة امتهنت «الطوافة»، كانت تسكن حارة تدعى «سوق الليل» تجاور الحرم المكي، وغير بعيدة من دار مولد النبي محمد، وتلقى أول تعليم له على يد امرأة فقيهة مع رفقة تضم فتياناً وفتيات، وتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن والحساب. وبعد إكمال المرحلة الثانوية في إحدى مدارس مكةالمكرمة، سافر في عام 1940 إلى القاهرة لمواصلة الدراسة، في كلية دار العلوم «جامعة فؤاد الأول»، وكان ضمن العشرة الأوائل الذين نالوا الشهادة الجامعية في السعودية. عاد إلى بلده متحمساً للعمل والتحديث في بنى المجتمع، ومارس التعليم ودرّس جيلاً أصبح عدد منه وزراء وسفراء ومسؤولين كباراً في الدولة، ومنهم أحمد زكي يماني، وزير النفط الأسبق، والناقد والأديب عابد خزندار، في حين بقي هو زاهداً في المناصب، مبتعداً عن مغرياتها. وما لبثت أجواء القاهرة ومناخاتها الثقافية أن اجتذبته ثانية، فعاد في عام 1950 لمواصلة دراساته العليا، وخلال تلك الحقبة التحق بمعهد الدراسات العربية العالية، التابع لجامعة الدول العربية، وقدم فيه محاضرات عدة، ليجمعها لاحقاً فتكون كتابه الشهير «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية». في عام 1978 يعود عبدالجبار إلى السعودية ليتم تعيينه مستشاراً لجامعة الملك عبدالعزيز التي كانت في بداية عهدها، حتى أنه لم تكن تتوافر بها مكتبة للطلاب، فتبرع بمكتبته الضخمة لطلاب الجامعة. ولم يدم به الحال فيها سوى عام واحد، إذ آثر التفرغ للكتابة الفكرية والنقدية في الصحف، وحينها حول منزله إلى صالون ثقافي يفتح أبوابه أسبوعياً للمثقفين والكتاب. غير أنه عاد وعمل مستشاراً لشركة تهامة للنشر والتوزيع، والتي لعبت دوراً مهماً في صناعة الكتاب الأدبي السعودي وانتشاره، وكذلك عرفت بأهدافها التنويرية. أصدر عبدالله عبدالجبار عدداً من الكتب، لم تنجُ من التأثر بالتيارات الفكرية والأدبية التي شهدتها الثقافة العربية في تلك الحقبة، ومنها «أمّي» (1954) ومسرحية «الشياطين الخرس» (1954) وكتاب «الغزو الفكري» (1974). يقول الناقد حسين بافقيه، وهو أحد المهتمين بدراسات الراحل وأعد حوله كتاباً، إن عبدالجبار لا يقل في أهميته عن المدرسة التي ينتمي إليها محمد مندور ولويس عوض، وغيرهما ممن اهتموا بتيار النقد الواقعي في تلك الفترة، «ولكن للأسف أننا في العالم العربي مصابون بثنائية المركز والهامش، فإن تعتيماً كبيراً مورس على الأستاذ وكتابه في مصر». كرّمه المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية» في عام 2007، غير أن ظروفه الصحية حالت بينه وبين أن يتسلم شخصياً وسام الملك عبدالعزيز من يد خادم الحرمين الشريفين، فأناب من يذهب بديلاً عنه. نظر النقاد والباحثون إلى جهود عبدالجبار نظرة تقدير وأولوها اهتماماً كبيراً، فالناقد سعيد السريحي يعتبره «رمزاً من رموز المواقف الثقافية، وشيخاً من شيوخ النقد والإبداع»، ويرى أنه لم يفرط في كرامته كمثقف، وظل كما هم المثقفون الأحرار والشرفاء، لافتاً إلى أنه حين كتب «التيارات» كان «يتحدث علناً بما كان يقال سراً». أما الكاتب عبدالله مناع فاعتبر ما قدمه صاحب «الشياطين الخرس»، خطوة متقدمة على طريق الثقافة والوعي، «ولو أنه ولد في مجتمع آخر لحسد هذا المجتمع على عبقريته، وأنه قدم جهداً كبيراً في الأدب العربي ككل». ولئن أشيع كثيراً أن صاحب «قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي» آثر اعتزال الحياة الثقافية، لائذاً بنفسه، ليعيش محاطاً بالكتب في منزله بمدينة جدة، إذ كان يقرأ بالعربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية، غير أنه نفى أن يكون عيشه في عزلة عن المجتمع، وكان يقول: «أنا أتابع جيداً ما يطرح في الحركة الثقافية، وأحرص أن أقرأ ما ينشر وما يفوتني منه أبحث عنه عند الأصدقاء لمتابعته، إذاً أنا لست منعزلاً عن الناس». وقبل وفاته بأعوام عدة، صدرت أعماله الكاملة في سبع مجلدات، على نفقة أحمد زكي يماني وبمساعدة ثلة من أصدقائه المقربين، كالناشط محمد سعيد طيب والكاتب عبدالله فراج الشريف. وشكلت هذه الأعمال مناسبة لتتعرف الأجيال الجديدة على دوره المؤثر في تاريخ الثقافة الحديثة، وقدرته على ربط الأدب بالقضايا الاجتماعية، إضافة إلى الإطلالة الواسعة التي تتيحها على ثقافة الجزيرة العربية منذ سقوط الدولة العثمانية.