واجهت العلاقات بين مصر والسودان أزمة متصاعدة خلال عام 2017 لعل أحد أهم أسبابها محاولة الخرطوم دفع القاهرة إلى فتح ملف الخلاف الحدودي بين البلدين في منطقة حلايب وشلاتين، وذلك بتقدير أن مصر في أضعف حالاتها إزاء السودان بسبب سد النهضة الذي يُعَد، بحجم التخزين المائي المستهدف من إثيوبيا، مهدداً للأمن المائي المصري. فضلاً عن أن فتح هذا الملف يضمن دعماً شعبياً لحكومة البشير، خصوصاً أن الأجيال السودانية الشابة لا تملك تراثاً إيجابياً لمصر في مخيلتها الذهنية بتأِثير مباشر من الخطاب الإعلامي السوداني المضاد لمصر على مدى عقود من جهة، والقصور المصري في التعامل مع هذا التحدي من جهة ثانية، من حيث اعتماده على آليات أمنية، وكذلك غياب مكونات المجتمع المصري المدنية في التعامل مع نظرائهم السودانيين. ويمكن في هذا السياق رصد تصريحات لكبار المسؤولين السودانيين منذ مطلع 2017، بدءاً من الرئيس عمر البشير ووزير خارجيته إبراهيم الغندور، وأيضاً الاعتراض السوداني على اتفاقية الحدود البحرية بين مصر والسعودية، على رغم أن هذه الاتفاقية وُقِّعت عام 2016. كما تم استخدام توصيف «احتلال» في آذار (مارس) الماضي في شأن الوجود المصري في حلايب وشلاتين، وذلك في الشكوى السنوية التي تقدمها السودان إلى الأممالمتحدة منذ عام 1958 في شأن الخلاف الحدودي مع مصر. وأخيراً عدم تلبية الرئيس البشير دعوة نظيره المصري إلى حضور مؤتمر الشباب في شرم الشيخ في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. ويمكن القول إن السعي السوداني يراهن على دفع مصر نحو قبول تحكيم دولي في شأن الخلاف الحدودي أو على الأقل فتح حوار مباشر مع الخرطوم في هذا الشأن. ويبدو أن التحركات السودانية تلبي توجهات فريق لا يستهان به من الإدارة في السودان يستهدف إنهاك مصر، خصوصاً بعد إزاحتها حكم «الإخوان المسلمين» في منتصف 2013. ذلك أنه على عكس الترحيب الشعبي السوداني بمخرجات «الثورة» التي أطاحت ذلك الحكم، بل اعتباره إنجازاً تاريخياً يتمنى أن يحققه قطاع عريض من السودانيين، جاء موقف نخب الإسلاميين في المؤتمرين الوطني الحاكم والشعبي المعارضين مغايراً، بل يمكن القول إنه أصيب بصدمة، خصوصاً أن صعود «الإخوان المسلمين» في مصر تمّ تصنيفه من جانب هؤلاء على أنه تحقيق حلم طال انتظاره منذ انقلاب الجبهة القومية الإسلامية عام 1989. فقد أقدمت الخرطوم على تقديم دعم غير محدود من رصيد خبراتها الممتدة على مدى ثلاثة عقود تقريباً لتحقيق التمكين الكامل ل «الإخوان» في مصر على حساب بقية القوى السياسية المصرية، وهي التجربة التي حققت نجاحاً مشهوداً في السودان. وأسفرت عن صدمة نخب الإسلاميين السودانية عن هرولة حسن الترابي قبل وفاته مباشرة للانخراط في الحوار الوطني السوداني مع غريمه المؤتمر الوطني، بتقدير موقف مؤسس على مخاوف من إزاحة نظام البشير عبر ثورة سودانية مثيلة للثورة المصرية؛ فرأى الرجل أن نار المؤتمر الوطني، حلفاء ما قبل مفاصلة 1999 التي أزاحته عن الحكم، ولا جنة غيرهم من قوى سياسية ربما تلجأ إلى محاسبة النظام السوداني على مظالم جرت في عهده. وفي المقابل، فإن نجاح ثورة 30 حزيران (يونيو) 2013، في مصر، أسفر عن تيارين في الإدارة المصرية، أحدهما يعول على علاقات ذات سمات إيجابية مع السودان. حدث ذلك خصوصاً بعد زيارة الرئيس البشير القاهرة في تشرين الأول (أكتوبر) 2013 ولقائه «الدافئ» مع الرئيس السيسي الذي كان يشغل حينئذ منصب وزير الدفاع. أما التيار الثاني فتغلبه الهواجس في شأن نظام حكم مرجعيته السياسية منتمية إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وشارعه يعج بتنويعات فرق الإسلام السياسي، بينما واقعه الاجتماعي يضم تيارات عدة للسلفية الدعوية وربما الجهادية. وفي مستوى الشارع السياسي المصري، هناك اهتمام محدود بالتفاعلات السياسية السودانية الداخلية، لكن مشهد تقسيم السودان كان في المخيلة المصرية صادماً لطبيعة الوجدان المركزي للمصريين الذي يعلي من شأن وحدة التراب الوطني للدول. وتم تحميل وزر ذلك التقسيم؛ على مستوى الشارع المصري، إلى «إخوان» السودان، على رغم أنهم على المستوى الموضوعي، لا يتحملون وحدهم مسؤولية انفصال الجنوب. وبطبيعة الحال، تلعب المخاوف السودانية، بتأثير الفريق المناهض لها في الإدارة المصرية، دوراً كبيراً في التفاعلات الجارية راهناً في ملف العلاقات المصرية السودانية، إذ تمّ التصريح بذلك مراراً على لسان مسؤولين سودانيين. وبناءً على ذلك تمت بلورة موقف من قطاع مؤثر في النخبة الحاكمة السودانية يهدف إلى إنهاك مصر، وهو كلام شبه معلن بعد تسريبات تشير إلى ضرورة توظيف ملف السيولة الأمنية في ليبيا ضد مصر، عبر تقديم دعم إلى قوات «فجر ليبيا» المحسوبة على «الإخوان»؛ حيث تمّ الإعلان عن ضبط طائرات محمّلة أسلحة من السودان إلى هذه القوات خلال عامي 2014 و2015، وربما يكون تمويلها قطرياً. وأقدمت ليبيا على إغلاق القنصلية السودانية فيها هذا العام، على خلفية هذه التفاعلات، ربما بشواهد أن أشكال الدعم السوداني للميليشيات المناهضة للجيش الليبي الذي يتزعمه حفتر لم تتوقف من جهة، وأن حفتر ذاته مدعوم من مصر من جهة ثانية. ويمكن القول إن السودان استخدم وطوّر الكثير من الآليات الإضافية في محاولة إنهاك مصر، حيث اتهم الرئيس السوداني مصر بدعم المعارضة المسلحة في دارفور، كما أوقف السودان استيراد السلع والمنتجات المصرية. وفي هذا السياق، فكّت السودان تحالفها التاريخي مع مصر باعتبارهما دولتي مصب لنهر النيل تفرض المتطلبات الهيدروليكية للنهر وحدة موقفهما مقابل دول المنابع، وذلك أيضاً لاعتبارات مرتبطة بمتطلبات الأمن الإنساني للشعب السوداني التي يهددها إنشاء سد ضخم من دون رقم معلن لمعامل أمانه، في حال انهياره لا قدر الله، وهو احتمال يقدره الجيولوجيون المصريون بنسبة 9 في المئة. وقد تجاهل السودان الاعتبارات الإستراتيجية المرتبطة بدعم الوزن الإقليمي لإثيوبيا الذي لا بد وأنه يهدد الخرطوم مستقبلاً ويكون على حسابه، وأقدمت الخرطوم على إقامة تحالف إستراتيجي يتضمن اتفاقات دفاعية مع أديس أبابا منتصف 2017، وقامت إثيوبيا بعده بالاعتراف بحلايب وشلاتين كأراضٍ سودانية. وفي نهاية العام استقبلت الخرطوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يدعم إخوان مصر، وتعيش في بلاده نخبهم حيث يمارسون درجات عدة من استهداف النظام السياسي المصري عبر منصات إعلامية. وبطبيعة الحال فإن توظيف النظام السياسي السوداني حلايب وشلاتين كملف للمقايضة مع مصر؛ إلى جانب تحالفه مع إثيوبيا المؤسس على إمكانية الاستفادة من الطاقة الكهربائية لسد النهضة بما يشكل مخرجاً ولو محدوداً من أزمة الطاقة في السودان، فهو يضمن نوعاً من الشعبية للنظام السياسي السوداني بسبب مخاطبته الذات الوطنية السودانية. لا يمكن القول بوحدة موقف النخبة السودانية إزاء مصر، فمن الواضح أن القوات المسلحة السودانية تحاول أن تحافظ على قوميتها في هذه المرحلة؛ ليس فقط بين أطراف الطيف السوداني السياسي ولكن أيضاً في ما يتعلق بالعلاقات الإقليمية، وتحاول قياداته الحفاظ على العلاقات المصرية السودانية وعدم وصولها إلى مراحل الانهيار الكامل، خصوصاً في ضوء تحديات داخلية ليست سهلة ممثلة في اعتماد النظام السياسي على قوات الدعم السريع التي أحرزت نجاحاً كبيراً في دارفور وتمارس حالياً أدواراً متصاعدة على صعيد جمع أسلحة القبائل السودانية، وهو أمر لا يلقى ترحيباً من الجيش، خصوصاً مع إدراكه أخطار وجود الأسلحة ليس فقط في دارفور ولكن مع فِرق من الإسلاميين الذين يقاومون انحسار سيطرتهم على مفاصل الدولة. أما التحديات الخارجية المشتركة مع مصر، فممثلة في تصاعد الإرهاب المقبل من الحدود الغربية في دولتي وادي النيل، خصوصاً أن الأخطار الماثلة في دارفور تمثل هاجساً مقلقاً للسودان. وفي هذا السياق يشار إلى أن هذا الملف يحوز على تفاهم مصري سوداني على مستوى القوات المسلحة في البلدين. وتعلي مصر من وزن هذا التفاهم وتضبط ردود فعلها إزاء التصعيد السوداني في إطار المهنية الديبلوماسية التي تقاوم بشدة انهيار العلاقات بين القاهرةوالخرطوم، وذلك مع تجاهل السعي السوداني إلى مقايضة ملف الحدود بملف السد تحت مظلة الوجود العسكري المصري الفعلي في حلايب، وامتلاك مصر أوراق ضغط ربما تكون مناسبة في ملف سد النهضة، ولجوئها أخيراً إلى التعامل المباشر مع إثيوبيا بعد المراهنة الفاشلة على الخرطوم في تقريب المواقف مع أديس أبابا. وأخيراً؛ فإن القاهرة لا تستطيع التعويل على الموقف السوداني في هذه المقايضة المطلوبة سودانياً؛ نظراً إلى كثرة إقدام الخرطوم على تغيير تموضعها الإقليمي خلال العقود الثلاثة الماضية، وبتسارع ملفت يجعل من مسألة إيمان النخب الحاكمة في السودان بالمتطلبات الإستراتيجية للدولة محل تساؤل؛ وبما يجعل فرص الرهان على صدقية الموقف السوداني إزاء مصر وفي ملفات المقايضة ضعيفاً إلى حد كبير. * كاتبة مصرية