في زحمة إصدارات غنائية تتناول مواضيع لا تشبه واقعنا ولا تعبّر عن قضايانا، يبرز صوت المغنية اللبنانية الملتزمة تانيا صالح مقدماً نقداً لاذعاً لما نعانيه من آفات ومشاكل. الأسطوانة الجديدة بعنوان «وحدة»، وقُدّم العديد من أغانيها في حفلة أقامتها صالح أخيراً في «قاعة بيار أبو خاطر» في بيروت، بدعوة من «نادي لكلّ الناس»، تدعو الجمهور الى طرح الأسئلة والتفكير في ما يدور حولهم، بل ربما تحرضهم على مناهضة الأنظمة الفاسدة. يبدو واضحاً أن العمل يأتي كتتمة لما قدّمته صالح في ألبومها الأول، العام 2002، حين طرحت قضايا سياسية، منتقدة النظام وإن بشكل مبطّن، كما في أغنية «الجيل الجديد». تترجم الفنانة الشابة مقولة أن الفن يجب أن يكون مرآة المجتمع الذي ينطلق منه، وبما أن لبنان يعيش أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية منذ سنوات طويلة، كان لا بد لها من تقديم أعمال تعكس الواقع السيئ وحالة الملل وعدم الثقة بالطبقة الحاكمة . المميَّز في الألبوم الذي يضم تسع أغنيات، أن صالح لم تؤدِّ دور الواعظة، بل حاولت من خلال تمكّنها اللغوي اللعبَ على الكلام، وتحميلَه أكثر من وجه، كما في أغنية «وحدة»، فأتت الأغنيات ساخرة، تهكمية، محمَّلة بالوجع، وانتقادية لاذعة. ويبرز في بعض الأعمال تأثرُها بزياد الرحباني، خصوصاً أنها عملت معه في مسرحية «بخصوص الكرامة والشعب العنيد». واللافت أن صالح من الفنانات القليلات اللواتي يقدمن هذا النوع من الأغاني الملتزمة، والذي طالما كان حكراً على المغنين الذكور. كتبت الفنانة اللبنانية أغنيات الألبوم، ولحنت عدداً كبيراً منها، مما يمنحه خصوصية صاحبته. من يستمع إلى العمل جيداً، يُدرك أن ثمة رسالة ما بين طياته. تعبّر صالح عن معتقداتها السياسية، مبدية رأيها في عدد من الأمور المستعصية، ومنتقدة الوضع الاجتماعي، متناولة مشاكل عاطفية بطريقة غير تقليدية. كما أنها تدعو المتناحرين الى الحوار والتفاهم، وتطالب بنظام علماني، وبالابتعاد عن الطائفية والمذهبية. وهنا يكمن دور الفنان في مخاطبة يوميات الناس وهواجسهم. ولعل أهم ما في العمل أنه يتوجه إلى مختلف الفئات كفن نخبوي وشعبي في آن معاً. المشروع الملتزم الذي تقدمه صالح، من الصعب أن يستمر، إن لم يتوفر له دعم مادي، خصوصاً أن موجة فنانات الإغراء في ازدياد. لكن بعد الثورات التي انطلقت في العالم العربي، يبدو أن المستمع بات أكثر إدراكاً لما يريده ويفضله، وحريصاً على توسيع أفق خياراته. في أغنية «عمر وعلي»، تتطرق صالح إلى انعكاسات الفتنة المذهبية وما لها من تبعات. تعكس الأغنية الخلل في التعاطي السياسي في لبنان، وتتميز بجرأة كبيرة، خصوصاً أن هذا الموضوع لم يتطرق اليه أحد من قبل بكلمات مباشرة، واضحة وصريحة. تريد صالح من الأغنية أن تكون بداية لحوار هادئ ورصين يفضي إلى اتفاق وتعايش لمصلحة الوطن. في السياق ذاته، تتابع صالح مطالبتها بإسقاط النظام الطائفي إلى جانب إقرار نظام علماني للابتعاد عن مشاريع الطوائف الضيقة، والانفتاح على الآخر وملاقاته. الأغنية وعنوانها «18 مولايا»، وهي فولوكلورية عراقية (ع العين موليّتين)، قدّمتها سميرة توفيق منذ أكثر من 30 سنة، بيد أن صالح غيّرت كلماتها لتتناسب مع الواقع اللبناني، كأن تقول: «كل من في عقل براسو بيصير علماني، العالم ماشي لقدام وعم نمشي خليفاني». والملاحظ أن الفنانة الشابة، تعاونت في التلحين مع جاد عوّاد وهيثم شلهوب ومهران غورونيان. ولكل ملحن جملته الموسيقية ونمطه في العمل، بيد أن الألحان أتت انسيابية ومتجانسة، جمعت بين الروك والفانك والموسيقى العربية، بنَفَس يخلط الشرقي والغربي. ويتميز صوت صالح بعذوبة مشحونة بحس مرهف، جرس يتناغم فيه التطريب والإيقاع الحديث، كما يساعدها تحكمها بطبقات صوتها ومرونته على تحميل الأغنية انفعالات تدل على الغضب والفرح والدلال والهزل والجدية. منذ انطلاقتها الفنية، تحاول صالح تجديد بعض الأغاني الفولكلورية، وهي مبادرة منها لتعريف الجيل الجديد على أغاني التراث، ومنها «يابا يابا لاه»، من كلمات وألحان روميو لحود، والتي عادت وقدمتها مع مغنيها طوني حنا. وكذلك فعلت في عملها الجديد، حين أعادت تقديم أغنية من الفولوكلور العراقي قدمتها سميرة توفيق، وإن بنص جديد. تسع سنوات تفصل بين قديم صالح وجديدها، ما يدل على أن ثمة أزمة ما، فهي لا تعاني كسلاً في العمل أو الكتابة أو التلحين، لكن المشاكل دائماً مادية، إضافة إلى عدم القدرة على تأمين استديوهات لتسجيل الأعمال بأسعار معقولة، وصعوبة إيجاد شركات إنتاج تتعاطى مع ما هو ملتزم وبديل، في ظل ثورة الفيديو كليب وفنانات الإغراء.