لم يتغير شيء في سورية منذ إعلان إلغاء حال الطوارئ ومحكمة امن الدولة، إن لم يكن نحو الأسوأ، في ظل استمرار موجة الاحتجاجات الآخذة في الاتساع، والقمع العنيف الذي يتعرض له المحتجون. وهذا يعني ان النيات وحدها لم تعد تكفي من أجل تهدئة الوضع، والتوجه نحو استقرار من دونه قد تنزلق البلاد الى الشر المستطير، كما لم تعد تكفي التعهدات الشفوية، أنّى كان مصدرها، لعودة الثقة بين الحكم والمحتجين. كذلك لم تعد الرواية الرسمية عن المجموعات المسلحة والسلفية... إلخ، في مصلحة الحكم في سورية، إذ إنه في حال صدْق هذه الرواية التي تبرر بها السلطات عدم الانتقال الى سياسة جديدة في معالجة المطالب الاصلاحية واستمرار القمع العنيف، فإنها تشكل الدليل على ضرورة إعادة نظر في وظيفة الأجهزة الأمنية، بعدما أثبتت فشلاً مريعاً في مواجهة هذه المجموعات، اذ كيف يمكن لدولة مثل سورية، في حال حرب مع اسرائيل، المتزايدةِ العدوانية والتمسك بالجولان المحتل، وتملك زهاء دزينتين من أجهزة الامن، ألاّ تتمكن من كشف مجموعات مسلحة يعتلي افرادها السطوح في مدن عدة، ووقت متزامن، ويروحون يطلقون النار على المحتجين وقوى الامن؟! الا يعني ذلك ان هذه المجموعات، بصرف النظر عن الصفة التي تطلقها عليها السلطات، منظَّمة ومدرَّبة ومعَدّة لمثل هذه الممارسات المخطَّط لها؟ وكيف لا تُقيل السلطات كل مسؤولي الأجهزة الامنية الذين يضبطون أنفاس الناس منذ عقود ويظهرون هذا القدر من التقصير في كشف هذه المجموعات واعتقال افرادها وتقديمهم الى محاكمة علنية؟ كل ذلك لم يحصل، لأنه ببساطة لا وجود لمثل هذه المجموعات المنظمة، وقصتها تبريرٌ للفشل في معالجة المطالب الإصلاحية، واذا لم يتم الاعتراف بهذه الحقيقة، فإن كل الإعلانات الشفوية لن تؤدي الى تهدئة. صحيح أن ثمة خصوماً داخليين للحكم السوري الحالي، وتتوزع ولاءات هؤلاء الخصوم على تيارات إسلامية متشددة إلى تيارات يسارية متطرفة، وصحيح أيضاً أن خارج سورية ثمة من يرغب في تغيير الحكم في دمشق، لكن الصحيح في الوقت عينه، ان الضعف الذي يعانيه هذا الحكم حالياً يرتبط بضيق مساحة قاعدته وانحسار هذه المساحة مع مرور الوقت. والصحيح أيضاً أن غالبية من السوريين الذين يطالبون بالإصلاح يرغبون في تفادي تعميم العنف، لانهم يعون مدى الخطورة في انفلات هذه العنف، ويرغبون أيضاً في إصلاح سلس وسلمي، وهو وحده ما ينقذ البلاد من حمام دم. وهؤلاء السوريون هم القاعدة التي ينبغي على الحكم السوري استعادة ثقتها وكسبها لتوسيع قاعدته، والتي لا يمكنه من دونها مواجهة الأصوليين المتشددين، الذين يقول إنهم يهددون وحدة البلاد. لقد تمكن الحكم السوري خلال العقود الماضية، من توفير حد من القاعدة الشعبية، بفعل تحالف مضمر مع تجار المدن، لكن هذا التحالف يواجه اليوم تحدياً كبيراً، وليس مضموناً إمكان الاستمرار فيه من دون انضمام فئات جديدة تضررت على مدى عقود من احتكار السلطة والاقتصاد. وأيُّ توجُّهٍ جِدّي نحو الإصلاح، ينبغي ان ينطلق من قناعة سياسية بضرورة انضمام فئات جديدة الى السلطة، وهي قناعة لا يؤكدها سوى الإلغاء الفوري لمواد الدستور التي تضمن هذا الاحتكار، وإطلاق تعددية سياسية حقيقية تتيح التعبير الحر والشفاف عن كل مكونات المجتمع السوري. لا يزال ممكناً للحكم السوري ان يبدأ مسيرة اصلاح، رغم شعار المحتجين «الشعب يريد إسقاط النظام»، لكن ذلك يفترض شجاعة للاعتراف بالواقع السوري الحالي، الذي لم يعد ما كان عليه قبل سنوات، وشجاعة الإقدام على إصلاح حقيقي للنظام السياسي وممارسة السلطة، وشجاعة القبول بمشاركة المكونات السياسية الأخرى في السلطة.