بدايتك كانت شعرية قبل الكتابة الصحافية، ما معنى أن تكون شاعراً وكاتباً في الوقت نفسه؟ - الكتابة حال متشابهة وإن اختلف الشكل، هم فكري متواصل وأسئلة تتوالد، تخرج كثيراً بشكل مباشر في مقالات صحافية، وتخرج أحياناً أخرى بوهج شعري يتدفق من دون أن يكون هناك ترتيب مسبق كما الكتابة الصحافية. الشعر حال سحرية، والشاعر ساحر بياني يخرج أرانب الكلمات من قبعات المعاني. أعترف أني مقصر مع الشعر، لكن مع هذا أحاول استنهاض هذا الساحر في دواخلي الشعرية. أخذتني الكتابة العقلانية الصحافية أكثر بحكم قضايا العصر المتسارعة التي تحتاج إلى مزيد من النقد والتنظير والحجاج الفكري إن على المستوى الخاص أو المستوى العام، هذه الحال أعطتني رؤية للذات والآخر وللحياة وللمجتمع من حولي، وانسحب هذا قليلاً على الشعر فأراني أتطور شيئاً فشيئاً. كثير من قصائدي القديمة أرفضها ولو أنني تعجلت قليلاً في إصدار المجموعة الشعرية الأولى «لا ظل يتبعني»، لربما لم تخرج حتى الآن بسبب رفضي لكثير مما حوته في مرحلتي الحالية ففي المجموعة ما لا يستحق أن يوضع فيها وبعضه جيد، لكنني بعد هذه التجربة أجدني أختط في العامين الأخيرين وجهتي الشعرية الخاصة، وأتمنى أن أوفق فيها. كيف تصف علاقتك بالجماهير؟ وأنت تكتب هل تُفكر في القارئ؟ - العلاقة بين الكاتب والجمهور علاقة جدلية، فالقارئ حاضر بشكل مباشر أو غير مباشر. القارئ الآن لم يعد هو ذلك المتلقي السلبي، نحن أمام متلقٍ يمكن أن يأخذ بالنص إلى أبعد من مداه تأويلياً. النص ينتهي من الكاتب عند خروجه ليكون في منطقة القارئ، هكذا تشتغل نظريات التلقي الحديثة، هذا لا يعني أن يتخوف الكاتب من المتلقي بحيث تُحجّم حرية الكتابة لديه، ربما يحصل ذلك في المجتمعات التي لم تتعود على حرية الكلمة، ولكن هذا ليس مبرراً للكاتب أن يمارس تدليسه على القراء والكتابة برؤية ليست رؤيته، وإنما رؤى الآخرين خوفاً منهم أو تحقيقاً لمصلحة شخصية أو فكرية. الكاتب يمشي في منطقة ألغام كما قال تركي الحمد يوماً ما، والكاتب الجيد هو من يجيد المشي داخل حقل الألغام هذا. قصيدتك الأخيرة التي كتبتها قبل نحو أسبوع «المجازي».. أثارت الكثير من النقاد والمبدعين مثل سعد البازعي وفهد عافت وغيرهم.. حدثنا عنها؟ - الشكر للدكتور البازعي والشاعر فهد عافت على حسن ظنهما بالقصيدة، وأعتبر أنه شرف لي كون قامتين نقدية وشعرية شهدتا لها بالتميز. قصيدة «المجازي» رهان بيني وبين ذاتي يمتد من اتصال الشاعر بتاريخ من الرمل، وحاضر يبلل عطش الصحراء في الإنسان العربي. كان الرهان في القصيدة يتمثل في أن العمودية لم تستهلك نفسها، وأراني نجحت إلى حد ما في هذه الفكرة. هي عمودية في بنائها تجديدية في مضمونها، هي رؤية ذاتية تحاول أن تتحدث عن إشكالات الشاعر مع القصيدة ومع اللغة والأرض والحياة. عمودية تأخذ من القصيدة الشطرية التناظرية شكلها، ومن الحداثة رؤيتها للتحاور مع عمود الشعر - لو أردنا أن نستخدم لغة النقاد القدامى - وتبني سياقها الخاص امتداداً تاريخياً ومعاصرة تحديثية. انتقدك البعض في القصيدة، ما رأيك باعتبارك شاعراً في نقد أحد الروائيين لشعرك؟ - نعم، نقدني أحد الروائيين على النص، وكذلك ناقد آخر بيني وبينه بشكل خاص، لكن لا يضايقني النقد، إذ أعتبر أن الاختلاف طبيعة الجسم الثقافي، المشكلة ليست في النقد، بل في كون غالبية عمليات النقد انطباعية ذوقية، وهذا شيء طبيعي جداً، لكنه في غالبه يفتقر إلى الكثير من النقد العميق وإلى مبررات الرؤية المتماسكة. بعضهم يُغلّب ذوقه في مسألة النقد ويفرضه على الآخرين، من دون أن يصعد ذوقه إلى رؤية نقدية فاحصة لا تتوقف عند الانطباع الأولي، بل تغوص في أعماق النص، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن البعض الآخر يفرض ذوقه الخاص في الشكل الأدبي، فيرفض شكلاً لمجرد أنه عمودي من دون النظر إلى بنية النص كما عند بعض أهل السرد أو النثر، والبعض الآخر منحاز للشكل القديم ويرفض قصيدة النثر، في كلا الأمرين فإن البحث عن الرؤية الجمالية في بنية النص في الشكلين غائب، ومن ثم يمكن الانتقال منها إلى المعاني المنزوية خلف النص. النظر إلى الشكل وحده لا قيمة له في نظري ما لم يذهب عميقاً في المضمون، وهذا بحث في النقد الحديث طويل، وفصّل فيه الكثيرون ولا حاجة لنا إلى إعادته. بشكل عام كيف تنظر إلى حال الأدب السعودي أو المشهد الثقافي مقارنة بالعقود السابقة؟ - المشهد الأدبي أو الحال الثقافية السعودية عائمة قليلاً، والمقصد هنا أنه لا أرضية واضحة المعالم يمكن أن تتكئ عليها الثقافة السعودية، هي أشبه بعملية تجريب ثقافي مؤسساتي أحياناً وفردي كثيراً، كما أنها واقعة - أقصد الحال الثقافية - بين عمليتي تقدم وتأخر، فالمجموع الثقافي لا يزال يميل إلى الرؤى التقليدية على رغم التطور الحداثي في المجتمع السعودي، لكنه ما زال التطور فيه يحتاج إلى نقد كثير. هناك تراوح بين تقدم نحو الحداثة وتراجع إلى التقليدية، فلا الحداثيون استطاعوا أن يقنعوا الناس بمنجزهم الثقافي، ولا التقليديون استطاعوا إيقاف عجلة الحداثة. الغريب أن بعض الحداثيين عاد تقليدياً، وبعض التقليديين صار حداثياً، أما عموم الفريقين فما زالوا في متارسهم الثقافية القديمة حتى بعد انتهاء وتجاوز تلك المرحلة، لكنه يبدو تجاوزاً شكلياً لم يؤثر في بنية المجتمع حتى الآن، إلا في الإطار التقني من دون غيره. أما الأجيال الحديثة فإنها كما تبدو ظاهرياً أكثر تصالحاً من أعداء الأمس، على رغم أنه ما زالت هناك بعض الامتدادات التي تؤثر في رؤى الأجيال الحديثة فتؤثر فيهم. الحال الثقافية السعودية عبثية الطابع، تأخذ من عبثية التاريخ الشيء الكثير، فحينما كنا نتصور أن المجتمع في الأعوام العشرة الأخيرة تطور اجتماعياً وثقافياً، إلا أننا تفاجأنا بمدى تراجع الكثيرين، والرهان الذي كان على التطور كان رهاناً خاسراً نجد تمظهراته بما بعد الربيع العربي، الذي يبدو أنه تحول إلى خريف عربي ثقافي وسياسي للأسف. وهذه كلها تؤثر في البنى الفكرية والثقافية على المجتمعات بما فيه المجتمع السعودي، على رغم بعده عن بؤر الحدث، إذ نجد أن المشهد يرتكس ليعود إلى أعوام الجهاد القديمة في الثمانينات، بل أشنع منها بكثير، وإذا ما أردنا تخصيص الثقافة بعيداً عن السياسية، فإن المؤسسات الأدبية تتراجع بشكل محبط عن بعض الإنجازات التي حصلت قبل أعوام، وهذا كله يجعل المشهد الثقافي العربي بعمومه والسعودي بخصوصه، مشهداً مقلقاً ومحبطاً، لا ندري إلى أي مدى يمكن أن يصل! كتابك الأخير «ميادين التغيير» جاء في وقت عصيب يمر به العالم العربي، حدثنا عنه؟ - نعم هذا الكتاب ما كان ليكون لولا ما يمر به العالم العربي بعد ما اصطلح عليه ب«الربيع العربي»، برأيي لم يعد ربيعاً على رغم تفاؤلنا السابق به، فهو ثمرة تفكير امتد مع حال الثورات العربية التي فاجأتنا. لم يكن همي أن أكتب في القضايا السياسية، فهذه ليست منطقتي ولا أجيدها. بل كان الهم مساءلة هذه الثورات والتغيرات السياسية فكرياً، كانت الرؤية التي أنطلق منها هي أنه لا بد من رؤية فكرية متسقة تنظم هذه الثورات وتُسائلها وتتساءل معها حول ذاتها. كان الزخم الجماهيري مغيباً للكثير من الوعي، فكان لا بد من الابتعاد قليلاً عن هذا الزخم ورؤية الأمور بحيادية، أعرف أنه من الصعب ادعاء الحيادية في مثل هذه القضايا، لكن كان السؤال النقدي حاضراً في كل تحركات الكتاب، ولذلك كان عنوانه الفرعي: «أوطان تنقصها الأسئلة»، بالمناسبة هي تسمية الصديق عبدالله الحربي. أعترف بأنني لم أستطع تقديم إجابات حول الثورات من الناحية الفكرية والثقافية، لكنني أتصور على صغر حجم الكتاب أنه يطرح أسئلة محرجة على الواقع العربي، تحتاج إجاباتها إلى أعوام حتى يمكن الإجابة على كثير منها، لم تكن أسئلة الكتاب هي أسئلتي، بل أسئلة الواقع الذي آلت إليه الثورات بعد مضي ثلاثة أعوام، لذلك توجهت الأسئلة حول التغيير أنخبوي هو أم جماهيري؟ ومن يصنع الثورات؟ ولماذا فشلت الديموقراطية؟ وما موقع المثقف منها؟ وكيف يكون اختلافنا وتواصلنا داخل كل تلك القضايا؟ هذه الأسئلة أفضت إلى ضرورة وأهمية النقد في الأخير. المشكلة أن كثيراً من تلك الأسئلة أو النقد يقودنا للا معنى للأسف، وهذا أكثر إحباطاً، لكني أعتقد بضرورته لبناء رؤية أكثر تماسكاً، بحيث لا تمر تلك الثورات بشكل عبثي، وألا تذهب أرواح الناس هباء سياسياً وفكرياً.