تغفو الحدود الدولية بسلام مثقل ببقايا الحرب العراقية - الإيرانية وما جرّته من ويلات على سكان المدن الواقعة على جانبيها، وعلى رغم التشنجات المزمنة التي أصابت العلاقات بين الدولتين، يعبر التجاور الاجتماعي السهل من جنوب العراق متجهاً صوب مدن الأحواز إلى الخفاجية والحويزة والبسيتين والمحمرة، والتي تقابلها عراقياً العمارة والناصرية والبصرة. وكانت مدن الأحواز شهدت خلال الأسابيع الماضية حركة احتجاجية واسعة ضد ما يعتبره السكان «سياسة تمييز عنصري فارسية» بحقهم، وأدت تظاهرات الأحواز الى سقوط عشرات القتلى والجرحى في نطاق آليات قمع اعتاد السكان العرب مواجهتها. الموسيقى في الأحواز تفوح بالطور المحمداوي وإيقاعات موسيقى شط العرب... وتشابُهُ اللهجة الى حد كبير أوجد شعراً شعبياً يماثل أصناف الشعر الشعبي العراقي «الأبوذية، والدارمية، والزهيرية». ولا تخلو مناسبات الاهالي، حزناً أو فرحاً، أو حتى احتجاجاً، من «الهوسات» أو (الأهازيج)، وهي ممارسة اجتماعية شعرية تعرف في العراق والأحواز فقط، لكونها تتكون من مجتمع عشائري موازٍ بنظمه وعاداته وممارساته الاجتماعية لجيرانه في جنوب العراق. لكن ل «المحمرة وميسان» على جانبي الحدود الرسمية حكايةٌ أوضح عن سر هذا التقارب، فمدينة المحمرة، وهي اليوم فارسياً «خرمشهر»، تقع عند مصب نهر «كارون» في شط العرب، وتبعد عن مدينة الأحواز (120 كيلومتراً)، وميسان اليوم هي إحدى محافظات العراق ال18، تقع في القسم الجنوبي الشرقي من العراق، ويحدها شرقاً خط الحدود الدولية مع جمهورية إيران الإسلامية، وتبعد حوالى (380 كيلومتراً) عن العاصمة بغداد. وارتبطت ميسان بالمحمّرة منذ الظهور الأول لميسان في التاريخ، حيث تشير بعض الدلائل التاريخية الى أن المحمرة هي ذاتها «خاراكس» عاصمة مملكة ميسان، وهي مملكة ظهرت في القرن الثاني قبل الميلاد في جنوب العراق، أسسها الملك «إسباوسينو» عام 127 ق. م.، وامتدت شمالاً حتى جنوب بابل في وسط العراق، واتجهت جنوباً صوب عيلام (أي عربستان اليوم). أما في التاريخ المعاصر، فما يكشف حقيقة هذا التماثل الثقافي بين سكان جنوب العراق وسكان الأحواز، هو أن من شيد إمارة المحمرة هو يوسف بن مرداو، وذلك سنة 1812، وهو من شيوخ قبيلة «البوكاسب» الكعبية العربية، وهذه القبلية اتجهت من ميسان صوب الأحواز عام 1596، وكان ذلك في عهد حكومة حسين باشا أفراسياب التي اقامت في البصرة، حيث نقلت البيئة العشائرية والجذور الموحدة لهذه القبائل كلَّ أوجه ثقافة سكان جنوب العراق إلى إمارة المحمرة. واستطاع شيوخ بني كعب قيادة قبائل عربستان تحت راية «المحيسن»، وهو تجمع قبلي سياسي تمركز في المحمرة وعبادان والمناطق الأخرى المحاذية لشط العرب، وهذه القيادة الموحدة كانت سبباً في أن تحقق للمحمرة ثقلاً سياسياً في عربستان خصوصاً، ومنطقة الخليج العربي عموماً. ومن أهم أمراء بني كعب في المحمرة الأمير خزعل، الأمير الخامس والأخير، وهو من الشخصيات العربية البارزة في تاريخ العرب الحديث، إذ لعب دوراً رئيسياً في أحداث الخليج العربي في الربع الأول من القرن العشرين. وتأتي أهمية الأمير خزعل من أن زمن توليه الإمارة شهد منعطفات تاريخية في منطقة الخليج العربي، فاكتشاف النفط أفرز واقعاً تديره المصالح الأجنبية في المنطقة، وقيام الحرب العالمية الأولى وأهمية موقع إمارته إستراتيجياً، إلى جانب انهيار الحكم القاجاري في إيران وقيام الحكم البهلوي بدله. هذه الإحداث جعلت من الأمير خزعل في الواجهة السياسية، وتميَّزَ بشهرته بين أمراء المنطقة، وصفه الريحاني بقوله: «إنه أكبرهم – بعد الشريف الحسين- سنّاً، وأسبقهم إلى الشهرة، وقرين أعظمهم إلى الكرم». إلا أن خوف بريطانيا من قيام وحدة طبيعية بين عربستان والعراق (على وجه التحديد جنوبه)، اسقط اسم الشيخ خزعل في مؤتمر القاهرة ،حيث جاء في بيان ونستون تشرشل - وزير المستعمرات - في حزيران (يونيو) 1921: «إن حكومة صاحب الجلالة تعتبر الأمير فيصل مرشحاً مناسباً، بل المرشح الأنسب في الميدان، وتأمل في إن يحصل على تأييد غالبية الشعب العراقي». وبعد ان ضُمَّت المحمّرة إلى الحكم البهلوي سنة 1925 وقُتل الأمير خزعل، ظلت علاقة المحمرة بالسلطة في طهران متوترة وتشوبها موجات غضب جماهيري متواصلة. وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران، أملت المحمرة في أن يعود لها حقها بالحياة السياسية ضمن إقليم الاحواز، أو حتى شيء من الاستقلالية الإدارية التي تمتعت بها لأكثر من قرن، وهذا ما لم تستسغه السلطة في طهران، فتصاعدت حدة المواجهة مع الدولة، إلى أن حدث ما يعرف بمجزرة «الأربعاء الأسود» عام 1979، حيث سقط مئات القتلى في هجوم شنته القوات الإيرانية على المحمرة وعبادان آنذاك، قبل عام فقط من اندلاع الحرب العراقية الإيرانية واجتياح الجيش العراقي المحمرة للمرة الاولى. وبنظرة على واقع المحمرة اليوم، نجدها لا تزال همزة وصل جغرافية وثقافية بين عرب عربستان وعرب «مملكة ميسان»، تستذكر أياماً خلت كانت فيها موسومة بأسماء أمراء بني كعب، لكن لا يزال أبناؤها يحاولون باستمرار الحفاظ على انتمائهم العرقي وحماية هويتهم الثقافية من محاولات التغيير الديموغرافي التي تمت عبر سياسية «التفريس» المتبعة هناك منذ نحو قرن.