منذ قبيل إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مصر في 19 آذار (مارس) الماضي وحتى الآن، بعد صدور إعلان دستوري بالمواد التي تم تعديلها في الدستور المصري، تثار الكثير من القضايا حول مضمون ومواد الدستور، المنتظر أن يظهر إلى الوجود عقب انتخاب رئيس جديد للبلاد قبل نهاية هذا العام، وخصوصاً المادة الثانية المتعلقة بأن الدين الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. فبمجرد طرح تلك المادة أمام الرأي العام للتعديل، ظهر حجم الاستبداد الديني، الذي قد يحل محل الاستبداد السياسي إذا لم يوجد بالفعل دستور لا يأتي بفرعون جديد، سواء تحت مسمى سياسي كما في الدستور القديم، أو تحت مسمى ديني كما يظهر من تعاطي الخطاب المتأسلم بتنويعاته المختلفة مع المرحلة المقبلة، والذي يُظهر ديكتاتوريةً ووصاية على المجتمع وعلى الدستور نفسه باسم الدين. وإثارة هذه القضايا أصبحت تجلي الصورة المفترض أن تكون عليها الدولة المصرية في الفترة المقبلة، إلا أن القضية الأهم تتمثل في كيفية إيجاد دستور بمواد تعمل على وجود فصل واقعي وفعلي بين منصب الرئيس ومؤسسات الدولة، عن طريق تقليل الصلاحيات، وفي الوقت نفسه تفعيل دور باقي المؤسسات، وخصوصاً السلطة التنفيذية، لتكون لها فاعلية ودور مرتبطان بتحقيق هدف واضح يخدم المجتمع، بعيداً من التبعية والولاء المطلق لرئيس الجمهورية، كما حدث في السابق، حتى لو كان على حساب المجتمع نفسه. ان خلق مثل هذه الروح والثقافة في المجتمع كفيل بالقضاء على سلبيات كثيرة ارتبطت بالسلطات المطلقة التي كان يعطيها الدستور لرئيس الدولة، إذ إنه في ظل الفترات التي كان رئيس الدولة فيها هو كل شيء، انقسم المجتمع إلى مجتمعين: مجتمع يمثل 99 في المئة من سكان مصر، ومجتمع الواحد في المئة الذي يمثل النخبة التي تتحرك بناء على تعليمات السيد الرئيس. وبحكم تسخير مؤسسات الدولة لمصلحته، استباح المجتمع بثرواته وممتلكاته التي باتت النخبة تهيمن عليها. هذا ناهيك عن أن مجتمع التسعة والتسعين في المئة بداخله أيضاً نسبة كبيرة من الموظفين والعاملين في مؤسسات الدولة بمختلف أشكالها، اصبحوا أسرى الرواتب التي يتقاضونها، وهو ما خلق لديهم ولاء إجبارياً للحاكم ومرؤوسيه. مثل هذا الخلل، المرتبط بانتشار الفساد، وتغييب التنمية داخل المجتمع وتراجعها، رغم غياب الحروب منذ ما يقرب من اربعين سنة، كان نتيجة طبيعية لصناعة الديكتاتور، التى تمت مأسستها عن طريق الدستور وما ارتبط به من قوانين، بحيث يكون رئيس الجمهورية فوق القانون والدستور، اللذين أعطياه صلاحيات مطلقة. وخطورة هذا الوضع انعكست بشكل كبير على ترياق الحياة داخل المجتمع، الذي اصبح بمؤسساته الضخمة متوقفاً على شخص واحد متمثل في الحاكم صاحب السلطات المطلقة. والامثلة هنا كثيرة ومتنوعة ومعبرة عن هذا الخلل، فمثلاً في الاعلام، سواء في التلفزيون الرسمي أو في حالة الصحف القومية، نجد أن هذه المؤسسات الاعلامية كانت في فترة ما قبل 25 يناير لا يحتل المواقع الرئيسية فيها غير الذين يأتون بناء على رغبة الرئيس والذين يفترض أنهم يسيرون على نهجه ويتبعون ما يقوله وما يفعله، حتى لو كانوا يدركون أن ما يقومون به مخالف للواقع ومضلل للرأي العام. ويمكن القياس على ذلك في باقي مؤسسات الدولة المهمة. ولم يقتصر الوضع على الداخل، بل تعداه إلى السياسة الخارجية، في شكل وزيرها والبعثات الديبلوماسية، التي شَلَّت حركتَها ولم تُعطِ فرصة للعقل أن يعمل انتظاراً لتوجيهات السيد رئيس الجمهورية، الامر الذي جعل السياسة الخارجية المصرية لا تفقد فقط دورها الحيوي السابق، بل تصل إلى التفريط بقضايا تمس الأمن القومي المصري، وبالأخص قضية مهمة جداً ترتبط بحياة الشعب المصري بالكامل والمتمثلة في العلاقة مع دول حوض النيل. الثقافة السلبية التي تم تدشينها داخل الوعي الجمعي لدى مؤسسات الدولة المصرية باتت في مقدم ما ينبغي تغييره، بإصلاح منبع إفسادها المتمثل في تركيز السلطات في يد شخص واحد. توزيع تلك السلطات على مؤسسات الدولة هو التحدى الاساسي الآن في مصر، فالقضية لم تعد في من سيفوز بمنصب الرئيس أو الفترة التى سيقضيها في هذا المنصب، وانما تتعلق بخلق اطار مؤسسي لا يسمح بأن يعود الماضي بكل مساوئه، المرتبطة بإفساد النخبة الحاكمة لارتباطها برئيس دولة لم يكن أحد يعرف إلى متى سيظل يحكم. * كاتب مصري