من المهم ملاحظة ذلك الاهتمام المتكرّر الذي أبدته «منظّمَة الصحة العالميّة» بالأمراض النفسيّة في 2017. وشمل ذلك تخصيص يوم عالمي لمرض الاكتئاب، مع فاعليّات تتواصل حتى نيسان (أبريل) 2018. وكذلك شهد «اليوم العالمي للصحة النفسيّة- 2017» في 10 تشرين أول (أكتوبر) 2017، اختتام فاعليّات حملة واسعة للتوعيّة بأحد أكثر الأمراض النفسيّة انتشاراً، تمت تحت شعار «الكآبة: حملة لنتحدث عنه»Depression: Let's Talk Campaign. ووثّقت المنظّمة اهتماماً مرتفعاً بتلك الحملة، عبّرت عنها مليوني زيارة إلى موقعها وإجراء ما يزيد على 300 نشاطاً في 76 دولة. وركّزت المنظّمَة على رؤية جديدة تتعلق بالطوارئ الصحيّة المرتبطة بالحروب والاضطرابات السياسيّة، خصوصاً في دول إقليم شرق المتوسط. ووفق المنظّمَة نفسها، يعاني ما يزيد على نصف بلدان الإقليم (بالأحرى 13 دولة من أصل 22 دولة فيه) حالات متفاوتة من طوارئ صحيّة ناجمة عن حروب وصراعات أو كوارث طبيعيّة. ويعاني الناس فيها مجموعة من مشكلات الصحة النفسيّة، أثناء حالات الطوارئ ولمدة طويلة بعدها. ويزيد احتمال تعافيهم إذا شعروا بالأمان والترابط والهدوء والأمل، وأتيح لهم دعماً اجتماعيّاً ومادياً ومعنوياً، ووجدوا طرقاً يساعدون بها أنفسهم. وهناك اتفاق على الترتيب الهرمي للتدخلات الطبيّة الملائمة لتلك الحالات، يقف في قمّتها التخصّص، فيما تشمل قاعدتها مجموعة من الإجراءات الأساسيّة. ويهدف ذلك إلى مساعدة البلدان على مواءمة استراتيجيات الاستجابة للطوارئ النفسيّة مع حاجات المجتمع المحلي. وتوصي المنظّمَة أيضاً بأن يوجد في كل مرفق صحي عام أثناء حالات الطوارئ الإنسانية موظف صحي على الأقل، للتعامل مع مشكلات الصحة النفسيّة. ولفتت إلى أن حالات الطوارئ، على رغم طابعها المأسوي تقدّم أحياناً فرصاً لبناء نظم صحيّة أفضل. وأشارت إلى وجود اتفاق على أنّ تسريع التقدّم عالميّاً في الصحة النفسيّة إذا بُذلت جهود هدفها تحويل الاهتمام القصير الأمد المرافق للأزمات، إلى قوّة دفع للتحسين في الأمد الطويل. رأس المال البشري وآفاقه تكتسب الصحة النفسيّة أهمية حاسمة لعافية الأفراد والمجتمعات والبلدان وقدرتهم على الصمود. كما يعود التعافي من أمراضها والاستثمار في علاج الاكتئاب والقلق، بعوائد تفوق رأس المال المستثمر بأربعة أضعاف. وبقول آخر، يعود كل دولار يُستثمر في علاج الاكتئاب والقلق ب4 دولارات تتأتى من تحسن صحة الفرد وقدرته على العمل. ورد ذلك في دراسة أُجريت بقيادة المنظّمَة العالميّة، تناولت للمرّة الأولى تقدير الفوائد الصحيّة والاقتصاديّة للاستثمار في علاج الأمراض النفسيّ الأكثر شيوعاً. وتقدّم الدراسة حججاً قويّة لصالح زيادة الاستثمار في خدمات الصحة النفسيّة في البلدان كلّها، مهما تفاوت دخلها. وثمة توافق على أنّ علاج الاكتئاب والقلق هو منحى سليم صحيّاً، وأثبتت الدراسة أنه سديد اقتصاديّاً أيضاً. ويجب إيجاد طرق للتأكّد من إتاحة خدمات الصحة النفسيّة لجميع الرجال والنساء والأطفال، في البلدان كلّها. ووفق «المكتب الإقليمي لمنظّمَة الصحة العالميّة» (اختصاراً «إمرو») في القاهرة، تزداد الاضطرابات النفسيّة انتشاراً عالميّاً. إذ ارتفع عدد من يعانون الاكتئاب و/ أو القلق من 416 مليوناً إلى 615 مليون شخص بين عامي 1990 و2013، أي بنسبة 50 في المئة تقريباً. ويتضرّر 10 في المئة تقريباً من الاضطرابات النفسيّة التي تمثل 30 في المئة من العبء العالمي للأمراض غير المميتة. وتزيد الطوارئ الإنسانية والنزاعات السياسيّة من ضرورة التوسّع في خيارات العلاج المطروحة. وتشير تقديرات المنظّمَة إلى أن شخصاً مِن كل خمسة أشخاص يصاب بالاكتئاب والقلق في ظل الأحوال المضطربة. ووفق دراسة اهتمت بكلفة العلاج والحصيلة الصحيّة، في 36 بلداً متنوّعة الدخول مِن 2016 إلى 2030، تبيّن أنها تبلغ 147 بليون دولار. وشمل ذلك التوسّع في العلاج الذي يتضمن المشورة النفسيّة أولاً، ثم الرعاية الاجتماعيّة والأدوية المضادة للاكتئاب. وعلى رغم ذلك، وُجِدَ أنّ العائدات تفوق تلك التكاليف! إذ يؤدي العلاج إلى تحسين مشاركة القوى العاملة وإنتاجيتها بقرابة 5 في المئة، ما يساوي قرابة 400 بليون دولار، يضاف إليها 321 بلايين دولار تأتي من عوائد غير مباشرة. حال الطوارئ وتأثيرها على النفس في السياق عينه، يُلاحظ أنّ الاستثمار حاضر في خدمات الصحة النفسيّة أقل بكثير مما يتوجّب. ووفقاً لمسح عام 2014 ورد في «أطلس الصحة النفسيّة» التابع للمنظّمَة، تنفق الحكومات 3 في المئة من موازنات الصحة على الصحة النفسيّة، وتتفاوت النسبة بين 1 في المئة في البلدان المنخفضة الدخل، و5 في المئة في البلدان المرتفعة الدخل. وعلى نطاق واسع، يُعتقد أن التوسّع في خدمات الصحة النفسيّة يساهم في تحقيق إحدى غايات أهداف التنمية المستدامة التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2015. وتتمثّل في تخفيض الوفيّات المبكرة الناجمة مِن الأمراض غير السارية بمقدار الثلث بحلول عام 2030. بصورة عامة، يرجح أثناء حالات الطوارئ وعقبها، أن يعاني الناس مجموعة مشكلات في الصحة النفسيّة. إذ يصاب بعض الأشخاص باضطرابات نفسيّة، حتى بعد انتهاء حال الطوارئ. وتتزايد حاجات الرعاية التي يحتاجها أشخاص كانوا يعانون أصلاً من الاضطرابات النفسيّة. وكذلك تشمل ذلك إسعافاتها الأوليّة تقديم الدعم الاجتماعي والنفسي إلى الأشخاص المأزومين، بطريقة تحترم كرامتهم وثقافتهم وقدراتهم. وتحتاج المجتمعات المنكوبة بالطوارئ إلى إتاحة طويلة الأمد لخدمات رعاية الصحة النفسيّة. إذ تشكل المِحَنْ عاملاً كامناً يحمل خطورة تتصل بمجموعة كبيرة من الاضطرابات النفسيّة. وإضافة إلى ذلك، هناك مشكلات أخرى تتأتى من طُرُق الاستجابة للطوارئ، وهي غالباً ما تكون غائبة أصلاً. وفي قائمة الاضطرابات النفسيّة، تبرز اضطرابات كأمراض الفصام (أبرزها ال»شيزوفرينيا»)، والكآبة المرضيّة، والإدمان على الكحول أو غيره من المواد المغيّرة للمزاج. وفي حالات الطوارئ، تبرز مشكلات كالحزن الفائض، والأسى المفرط، والكرب الشديد، وتعاطي الكحول ومواد الإدمان، و»ظاهرة ما بعد الرضّة النفسيّة»Post Traumatic Stress Disorder وغيرها. وتضاف تلك الأشياء إلى المشكلات المترتبة على الاستجابة الإنسانية كالقلق الناتج مِن انعدام المعلومات عن توزيع الغذاء، أو كيفية الحصول على الخدمات الأساسية وغيرها. الطوارئ فرصة أيضاً على رغم الطابع المأساوي للطوارئ، استفادت بلدان كثيرة منها في بناء نظم صحة نفسيّة أفضل. ومع تدفق المعونات من المانحين الدوليين، وزيادة الاهتمام بالمرض النفسي، ينفتح الباب أمام فرص تحسين نُظُم رعاية الصحة النفسيّة. في الآونة الأخيرة، شهد الشرق الأوسط مثلاً على تلك الفرصة الملتبسة. إذ تحسّن الحصول على الرعاية الصحيّة النفسيّة في المرافق العامة في كثير من مناطق سورية عام 2017، مقارنة بما كان عليه قبل الحرب فيها. وقبل الحرب، لم تكن الرعاية الصحيّة النفسيّة في ذلك البلد المنكوب متاحة إلا في المدن الكبيرة. وأثناء الحرب، تدرّب ما يزيد على 500 موظف في مجال الرعاية الصحيّة الأولية Primary Health Care، وصاروا يقدّمون خدمات الصحة النفسيّة في مؤسّساتها. وبقول موجز، شدّدت «منظّمة الصحة العالميّة» على أنّها تعمل على ضمان تنسيق الاستجابة الإنسانية الخاصة بالصحة النفسيّة، وبناء نُظُم الصحة النفسيّة واستدامتها بعد ذلك. وكذلك تعمل على إعداد الكوادر وتقديم الأدوات اللازمة لتلبية حاجات الصحة النفسيّة للناس في حالات الطوارئ. ووفقاً لبيان رسمي، يشمل ذلك الأدوات الخاصة بمتطلّبات الإسعافات الأوليّة، والتدبير العلاجي السريري، واستعادة نظم ذلك المجال الحيوي لقدراته وغيرها. تفكك العائلة... انهيار الفرد لاحظت المنظّمة أيضاً أنّ المشكلات المترتبة على حالات الطوارئ تشمل التفكك الأسري، وانهيار الإحساس بالسلامة، وممارسة التمييز، وفقدان أسباب الرزق، وتمزّق النسيج الاجتماعي للحياة اليومية، وانخفاض درجة الثقة، وتقلّص الموارد وسواها. ووثّقت أنّ المشكلات المترتبة على الاستجابة الإنسانيّة تشمل الاكتظاظ في أمكنة اللجوء، وفقدان الخصوصيّة في المخيمات، وفقدان الدعم المجتمعي والتقليدي، إضافة إلى المشكلات المتأصلة بالنسبة إلى الفئات المهمّشة. ومن الطرق الشائعة التي يظهر بها الناس معاناتهم من الشدّة النفسيّة («ستريس» Stress) أثناء الأزمات، هناك الأعراض الجسديّة ذات المنشأ النفسي كالصداع والتعب وفقدان الشهية والأوجاع والآلام. ويضاف إليها أعراض نفسيّة كالبكاء والحزن والأسى، والقلق والخوف، والتوجس والعصبيّة، والأرق والكوابيس، والانفعال والغضب، والارتباك والحيرة، والتشوّش (عدم معرفة الشخص أسمه والمكان الذي جاء منه)، وعدم قدرة الشخص على الاعتناء بذاته وأطفاله وغيرها. ولاحظت أيضاً أنّ الأقدر على التعافي هم الناس الذين يشعرون بالأمن والترابط والهدوء والأمل، ويحصلون على الدعم الاجتماعي والمادي والمعنوي، ويجدون طريقة لمساعدة أنفسهم عقب الكوارث والصراعات والحروب. ووضعت المنظّمَة مخططاً هرميّاً للخدمات والإجراءات الأساسيّة لمساعدة البلدان على المواءمة بين إستراتيجيّات الاستجابة وبين حاجات المجتمعات المحليّة. وبيّنت أن رأس الهرم يتكوّن من خدمات الصحة النفسيّة المختصة، بما فيها التمريض المختص بالأمراض النفسيّة. ويمكن تقديم الإسعافات الأولية النفسيّة بواسطة العاملين الميدانيين، بمَن فيهم العاملون الصحيون أو المدرسون أو المتطوعون المدربون، ولا يلزم بالضرورة دائماً أن يتولى ذلك مهنيون صحيون. ويستطيع الموظفون الصحيّون توفير رعاية أوليّة في الصحة النفسيّة وأمراضها، إذا جرى تدريبهم بصورة ملائمة.