بحلولِ الأزمنة الحديثة في القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)، كانت مجتمعات الأمة الإسلامية دخلت مرحلة التدهور الحضاري والتحلل العمراني والانكسار أمام الغزو الأوروبي. وفعلَ قانون «القابلية للاستعمار والاستعمار» فعله في تعميق الأزمة الحضارية الشاملة للأمة، وفي تخريب عمرانها، ونهب ثرواتها، وتدمير بنيتها التحتية. وأصابَ جانبَ الفكر السياسي بمختلف أنواعه الموروثة ما أصابَ بقية الحياة العامة للأمة من تدهور ذاتي بفعل الاستبداد الداخلي، وإضافة إلى الخضوع للتبعية بفعل الغزو العسكري الاستعماري والهيمنة الفكرية الوافدة. وفيما يخصُّ المجال السياسي وأنواع الكتابة فيه، شهدت الأزمنة الحديثة محاولاتٍ غير مسبوقة ومتتالية لإحلال أنماط الكتابة السياسية الأوروبية محل أنماطها الموروثة من التراث الإسلامي. وبخلاف ما كانت عليه علاقات التثاقف الحضاري في العصرين الأموي والعباسي، كانت هذه المحاولات الحديثة غير مسبوقة لجهة أنها استهدفت اقتلاع السرديات الموروثة والحلول محلها، وكان من ذلك مثلاً: الشروع في ترجمة كتاب «الأمير» لمكيافيللي حوالى سنة 1239/1240ه- 1824/1825م، بأمر من محمد علي باشا بعد أن أوصاه بذلك أحد القناصل الأوروبيين. وقد أمرَ محمد علي بترجمة أمير ميكافيللي فعلاً، لكن بعد أن قطع المترجم شوطاً فيه، عاد الباشا وأمر بوقف ترجمة الكتاب. وعلق على ما تمت ترجمته في حوار له مع قنصل النمسا في مصر آنذاك جوسيبي أشربي (Giuseppe Acerbi)، وكان ذلك سنة 1828م، أي بعد ترجمة ما تمت ترجمته من الكتاب بنحو أربع سنوات. وقال له محمد علي: «إنكم تثيرون في إيطاليا ضجة كبيرة حول كاتبكم المعروف مكيافيللي، وقد أمرتُ بترجمة كتابه إلى التركية كي أعرف ما فيه، لكنني أعترف بأنني وجدته أقل بكثير مما كنت أتوقع ومن الشهرة التي له، وإني أعلنُ لك أيضاً أن هناك مؤلَفاً عربياً آخر أثار دهشتي ونال إعجابي بعد أن أمرتُ فتُرجم إلى اللغة التركية هو «مقدمة ابن خلدون»، إن هذا الكاتب أكثر حرية في تفكيره من مكيافيللي، بل إنني أعتقد أن كتابه أكثر وأشد نفعاً. وإذا كان كتاب مكيافيللي ممنوعاً تداوله في بعض البلاد الأوروبية، أفما كان الأجدر أن يكون المنع أتم وأعم بالنسبة إلى مقدمة ابن خلدون»! ومن مفارقات التاريخ وسخرياته أن مخطوطة ترجمة كتاب الأمير لمكيافيللي غير المكتملة بأمر محمد علي، تم تسجيلها كوقفية أمام المحكمة الشرعية في مصر المحروسة لمصلحة مكتبة مسجد الحسين في القاهرة، وحُفظت المخطوطة لفترة في مكتبته، ثم نُقلت إلى دار الكتب المصرية في وقت لم أتوصل إلى معرفته، حيث تم حفظها تحت رقم 435/تاريخ، وعنوانها: «المجلد الرابع من مصنفات نيقولاس في التواريخ، وفي علم حسن التدبير في الأحكام». وطول المخطوطة 21.5 سنتيمتراً وعرضها 16 سنتيمتراً، وهي مكتوبة بخط النسخ الواضح الرائع. وتحتوي على 82 ورقة، وفي كل صفحة 20 سطراً. وتحتوي الصفحات من (1 أ) إلى (2 ب) على مقدمة موجزة بقلم المترجم روفائيل زاخور راهبة تبدأ بقوله: «نبتدئُ بعونِ الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الحمدُ لله الذي على مشيئته وتدبيره تنعقدُ سلاسل الحوادث والأخبار،... إلخ». ثم يتطرق المترجم إلى مدح محمد علي باشا، ويذكر أنه أمره بترجمة هذا الكتاب الذي «ألفه المعلم مكيافيللي، ليفيد منه القائمون بالوظائف الإدارية»!، وأنه ترجمه ترجمة دقيقة ليكون واضحاً سهلاً لمن يقرؤه...». كان مشروع ترجمة أمير ميكيافيللي وكأنه محاولة لإزاحة «نمط الآداب والنصائح السلطانية» والحلول محلها وفق رؤية وافدة من فلسفةٍ مغايرة. ثم كانت حركةُ التنظيمات في تلك الفترة ذاتها، أي في عهد السلطان محمود في الآستانة وعهد محمد علي في مصر، إضافةً إلى الأفكار والترجمات الدستورية والإدارية التي نقلها رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، وكأنها محاولة للحلول محل « الأحكام السلطانية» المتيبسة منذ قرون، وفي هذا السياق ظهرت أهمية كتاب «أقوم المسالك» لخير الدين التونسي، الذي توسع في ابتناء «التنظيمات» وشرعنتها على قاعدة «المصلحة»، وتبنّى مفهوم «السياسة الشرعية» التي يعرفها بأنها «القيام بالأعمال التي يكون معها حال الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد، وإن لم يضعْهُ الرسول ولا نزل به الوحي»، وهذا المفهوم موروث عن أئمة الحنابلة منذ ابن عقيل (ت513ه)، مروراً بابن قيم الجوزية (ت571ه)، وانتقالاً إلى عدد من علماء المالكية والحنفية. ثم كانت ترجمة كثير من كتب النظريات السياسية وتاريخ الفكر السياسي والقانوني الأوروبي، على يد مترجمين شوام ومصريين في بدايات القرن الرابع عشر الهجري (أواخر القرن التاسع عشر الميلادي)، وكان أيضاً نقلُ قوانين الأحكام العرفية وفرضها في البلدان الإسلامية إبان الحربين العالميتين، وكانت هذه الأعمال كلها وكأنها محاولة لإزاحة «فقه السياسة الشرعية» الموروث منذ القرن السابع الهجري والحلول محلها بما هو أشد منها نزوعاً إلى الاستبداد والحكم المطلق. ووفق رضوان السيد، كان خير الدين التونسي من أوائل الذين أعادوا استخدام مصطلح «السياسة الشرعية»، لكننا نعتقد أن الطهطاوي سبقه إلى ذلك. ودليلنا هو ما ذكره الطهطاوي في مناهج الألباب. قال بشأن القوة الحاكمة إن لها» ثلاث قوى عظيمة: القوة الأولى قوة تقنين القوانين وتنظيمها، وترجيح ما يجري عليه العمل من أحكام الشريعة، أو السياسة الشرعية» (ص349). وكان الإسهام الأكبر لخير الدين هو دعوته إلى الأخذ بالتنظيم الدستوري ووجوب تحديث الإدارة العامة. وقد وضع اجتهاداته في هذا المجال في كتابه الضخم «أقوم المسالك في تدبير الممالك»، وهو الشبيه المعاصر- مع وجود فوارق جوهرية- لفقه الأحكام السلطانية القديم. لقد هال خير الدين حال الضعف التي وصلت إليها الأمة في مواجهة التحديات الغربية، وطلب من علماء الإسلام دعم التنظيمات الحديثة، كما يقول رضوان السيد، لسببين: لأنّ الشريعة كافلةٌ لمصالح الدارين، فإنْ لم يقوموا بالاهتمام بالشأن الدنيوي أخلُّوا بركنٍ من الركنين فيُفضي ذلك إلى اختلال نظام الدين أيضاً. وأما السبب الثاني فهو أن التقدم الأوروبي- الذي طمى سيلُهُ في الأرض- يتطلب اهتمام الجميع بدفع السيل، ومن ضمنهم النخب السياسية والدينية. والوسيلةُ لهذا الاهتمام ذات شقين أيضاً: القول باقتباس ما يوافق الشريعة الإسلامية من محاسن التقدم الأوروبي. لكن بعد أكثر من قرن ونصف القرن تم فيها تطبيق تلك الأفكار والتوجهات المستوردة باسم التحديث والتنمية (الشبيه المعاصر غير المساوي ل «العمران») في شؤون المجتمع والدولة في بلدان الأمة الإسلامية، تبين أنها أخفقت في تأسيس عمران جديد ومعاصر، وأخفقت حتى في تحقيق أهداف «التنمية والتحديث»- وفق مصطلحاتهم- وآلت الإصلاحات المؤسسية إلى تشديد سلطة الدولة المركزية، وترسيخ أقدام الاستبداد عبر إساءة استخدام تلك التنظيمات والأفكار الحديثة ذاتها، بما فيها فكرة «الدستور» الذي أضحى مطية لسلطة الفرد بحجة أنه حامي حمى الدولة. وتأكد أن السلطة المطلقة للدولة مفسدة مطلقة للمجتمع، وأن لا فائدة من قوة الدولة إذا كانت مبنية على ضعف المجتمع، وأن الشبيه المعاصر وغير المساوي للعمران الإسلامي، وهو الحداثة أو التنمية المستوردة، مهما كانت براقة ومدهشة فإن مؤسساتها هشة، وأنها قد تعمل ضد مصالح الأمة، وعكس مقاصدها العامة في الكرامة والحرية والعدالة والسلام. لكن جهود التجديد والإصلاح والتخلص من الاستبداد الداخلي وموروثاته، وحركات المقاومة والتحرر من الاستبداد الأجنبي ووافداته الاستعمارية، ظلت- ولا تزال- تشق طريقها الشاقَّ والطويلَ من أجل الخروج من تلك الأزمة الحضارية الشاملة، وبقصد إعادة بناء عمران إسلامي أصيل ومعاصر، وذلك بالتزامن مع إنجاز مهمتين مركزيتين هما: التحرر من استبداد الداخل، والتحرر من هيمنة الخارج وكسر روابط التبعية الحضارية له. وبعد أن ألغيت الخلافة (1342ه/1924م)، واكتملت حلقات الاستبدادين: الداخلي والخارجي، بدأت ترتسمُ معالمُ نمطٍ جديد من الكتابة السياسية التي تستهدف «النهضة» وإعادة بناء العمران بكل أبعاده، بالاستناد إلى معايير المرجعية الإسلامية. وفي هذا السياق، جاءت الاجتهادات الجديدة في علم مقاصد الشريعة على يد العلامة محمد الطاهر بن عاشور(1296-1393ه/ 1879-1973م)، وعلال الفاسي (1326-1394ه/ 1910-1974م) ثم من جاء بعدهما وكتب في المقاصد العامة، وهم كثيرون. وقد فتحت هذه الكتابة المقاصدية الجديدة آفاقاً واسعة أمام الكتابة السياسية الإسلامية، مثلما فتحت الاجتهادات المقاصدية القديمة آفاقاً واسعة قبل ذلك في القرنين السابع والثامن الهجريين، وبخاصة على يد أبي إسحق الشاطبي. وفي هذا السياقِ الحديث بتحدياته الداخلية والخارجية، تندرجُ- في نظري- معظمُ الكتابات السياسية لرواد الإصلاح وقادة الحركات التحررية والمجتهدين والمفكرين في تاريخ أمتنا الحديث والمعاصر، ومنهم: الأفغاني، محمد عبده، الكواكبي، رشيد رضا، محمد إقبال، طنطاوي جوهري، محمد فريد وجدي، نجيب فاضل، عصمت أوزال، سعيد النورسي، سيزاي قراقوش، حسين الجسر، مصطفى الغلاييني، علال الفاسي، أبو الكلام آزاد، عبدالقادر عودة، عبدالرحمن عزام، عبدالرزاق السنهوري، مالك بن نبي، توفيق الشاوي، علي شريعتي، حامد ربيع، عبد الوهاب المسيري، طارق البشري، راشد الغنوشي، محاضير محمد، أنور إبراهيم، علي عزت بيغوفتش، حسن الترابي، محمد عمارة، سليم العوا، منير شفيق، أحمد داود أوغلو، رضوان السيد، منى أبو الفضل ونادية مصطفى. كتابات هؤلاء وأمثالهم ممن يشاركونهم التوجه الحضاري الإسلامي/ الإنساني- في علوم السياسة، شكلُ في مجموعها نوعاً جديداً من التفكير السياسي، بعد أن استنفدت أنواع الكتابة السياسية الموروثة أغلبَ مقاصدِها، وأضحى أغلبُها أيضاً في ذمة التاريخ. وهذا «النوع الجديد» نسميه «الفقه السياسي الحضاري»، وهو يستهدف بناءَ عمران إسلامي/ إنساني معاصر، يستند إلى ثوابت القيم المعيارية الإسلامية/ الإنسانية الكبرى وهي: الكرامةُ والحريةُ والعدالةُ والسلامُ. وتصب كتاباتهم في مجموعها باتجاه تأسيس نهضة عمرانية متعددة الأبعاد، تُخرج الأمةَ من حال الاستضعاف إلى القوة، ومن ظلماتِ الجهل إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن الاستبدادِ إلى الحرية، ومن التبعيةِ إلى الاستقلالِ والريادة العالمية. وهم في مجمَلهم لا يحفلونَ بخطاب الآداب السلطانية القديم، لكنهم مستمسكون بالأساس الأخلاقي لهذا الخطاب باعتبار أن الأخلاقَ من صميم السياسة الإسلامية. وهم ويواصلون البناء على خطاب الأحكام السلطانية، لكن بتجاوز ما فيه من فقه التغلبِ وحكومات الاضطرار وضرورات الحالات الاستثنائية التي حلت محل الأحوال العادية لقرون دون جدوى إلا مزيد من الانحطاط والاستبداد. وهم في جملتهم أيضاً يحررونَ فقه السياسة الشرعية من تركيزه على «سلطة ولي الأمر»، و «التوسعة على الحكام»، و «إطلاق السلطات التقديرية في حالات الاستثناء»، ويؤسسون لفقه جديد يركز على «احترام إرادة الأمة» و «الحفاظ على وحدتها»، و «مسؤولية الحكام ومساءلتهم»، والالتزام بالدستور ودولة القانون، والإدارة بالمؤسسات لا «بالسلطة المشخصنة»، ورعاية المصلحة العامة، والمحاسبة والشفافية، والرقابة على المسؤولين، والتوسعة على المحكومين بصون كرامتهم، والتمتع بحرياتهم. وعوضاً عن الذوبان في الحضارة المادية المعاصرة، يدعون لبناء عمران حضاري إسلامية/ إنساني جديد.