تبقى أي مواجهة فعالة مع الإرهاب بحاجة إلى إقامة ستار حديدي «فقهي» بينه وبين الإسلام، وهو أمر سنبقى عاجزين عنه طالما استمر نفر من المسلمين يبرر العنف أو يعتذر عن التطرف، حيث تتطلب مواجهتنا لكليهما التوافق حول مبدأ حاكم، تنويري وإنساني بمقدار ما هو حتمي وضروري. هذا المبدأ يصعب على علماء الدين الإفصاح عنه لأنه ينال من سلطتهم على الجماهير الواسعة، مثلما يصعب على رجال الفكر التصريح به خوفاً من هذه الجماهير نفسها. هذا المبدأ هو ما كان المسيح، عليه السلام قد أشار إليه: السبت لأجل الإنسان، وليس الإنسان لأجل السبت. والسبت هو الدين، بحسب الموروث اليهودي الذي يندرج المسيح في سياقه. غير أن المسيح غاب من دون أن تنتصر المسيحية، فما انتصر بعده كان هو الإيمان البولسي (نسبة إلى الرسول بولس)، ومعه انتصرت الكنيسة الرومانية «البطريركية»، فانهزم الإنسان شر هزيمة أمام سيف الكهانة، التي اتسعت تجارتها حتى بلغت صكوك الغفران، ومن ثم كان الإصلاح الديني، ليبدأ المسيحي الأوروبي مسيرة تحرره من ربقة البطريركية القامعة، عبر صيرورة ممتدة تغذت على المذهب الإنساني، وفلسفة التنوير، واكتملت بنضوج الحداثة وحضور الديموقراطية الليبرالية. المبدأ نفسه هو ما تكشف عنه الرؤية القرآنية للوجود، فالإنسان في الإسلام يأتي قبل الدين، وإن تالياً على الله، قطب الوجود الأول. ليس الله هو الدين، بل رب الدين، الذي خلق الإنسان، واستخلفه في أرضه، ومنحه الدين عطية روحية ترشده إلى الطريق القويم، الذي بنهايته تتحقق الخلافة الحضارية علي الأرض، حيث التمدن والتحرر، والتقدم، مع الإيمان، ولكنه، للأسف، قد هزم مراراً في تاريخ الإسلام، عندما هزم الإنسان أمام تحالف الفقيه مع السلطان، وصعدت الدول على أسنة المذاهب، وتأسست المذاهب على رماح الدول، حيث السلطان يرعى الفقيه، والفقيه يبرر السلطان، وما بينهما سقط العقل -أمانة الله في الإنسان- مغشياً عليه وملقًى في غياهب النسيان، ومن ثم كانت الخلافة السياسية على الطريقة الأموية أو العثمانية، حيث القهر والقمع تحت لافتة الدين. أو على الطريقة الداعشية حيث العبث والهمجية يجعلان من روح الإنسان السامية مجرد قربان تتوجب التضحية به على مذبح إمارة جاهلة أو سلطان زائف. لا يفقه المتطرفون والإرهابيون من الدواعش ومن يدور في فلكهم أو يقترب من فهمهم، حقيقة أن الإنسان هو غاية الله في الكون، وأن الحدب عليه والعناية هو عين الإيمان بالله، فكما أن الله مطلق اعتقادي، فإن الأخوة الإنسانية مطلق أخلاقي، ومن يؤمن بالله حقاً لا بد أن يحب الإنسان فعلاً، ومن يتنكر للإنسان فعلاً إنما يتنكر لله حقاً. الأمر هنا يشبه قضية رياضية، يمكن إخضاعها لمنطق الحركة الدائرية على إحداثيتين متقاطعتين: الرأسي منهما يبلغ ذروة ارتفاعه عند الله، والأفقي يبلغ ذروة امتداده عند الإنسان. الإحداثي الرأسي يعكس العلاقة بين الله والإنسان، على محور الضمير الذي يربط العبد بالرب بأواصر الإيمان والعبادة من قبل الإنسان لله، وملكات العناية والرحمة من قبل الله للإنسان، وهي علاقة تبلغ من الصدق والحرية مبلغاً لا يدانى، ترسم معالمها ليست النصوص التأسيسية في الشرائع التوحيدية فقط، بل يمكن اكتشافها في الكمال الإلهي نفسه، فلا يكون الإله إلا كاملاً، ولا يكون الكمال دون رحمة وغفران، ولذا كانت من صفات الله وأسمائه الحسنى. ورغم أن تلك الصفات يعادلها أخرى تشي بالكبرياء والقهر، فإنها الأخيرة تبقى صفات ثانوية مضافة للصفات الأولية في الذات الإلهية. ففي القرآن الكريم مثلاً، تبقى الرحمة مطلقة ودائمة وأبدية، فيما صفة العذاب موقوتة بخطايا العبد، واحتمالات توبته، ومن ثم لغفران الإله. وهكذا تعمل صفات القهر دور السلب في جدل الحركة التاريخية، فالسلب هنا ليس إلا تحدياً عارضاً يعوق انسياب حركة التاريخ، يعترض مسارها بغية إحداث تعديلات مطلوبة له، أما صفات الرحمة فتمثل دور الإيجاب، أي المسار الرئيس لهذا التاريخ، فهو الحركة ذاتها. أما الإحداثي الأفقي فيعكس العلاقة بين الإنسان والإنسان على تلك الأرض نفسها، ونقطة الذروة فيه هي الأخوة الإنسانية، التي لا تقصر على الشرائع التوحيدية بل تمتد لتطوى الإنسان باعتباره كذلك. يتجلى ذلك قرآنياً في الخطاب الإلهي إلى البشر في كثير من آياته باعتبارهم (الناس) فيما يخاطب الموحدين به فقط باعتبارهم (المؤمنين أو المسلمين). ولأن عهد استخلاف الإنسان غايته العمران وما يعنيه من تقدم وتمدين، فلم يكن ممكناً له إلا أن يتأسس على أخوة بشرية كاملة، إذ ليس من صالح العهد أن يقوم البعض بمهمة العمران، وأن يتفرغ البعض الآخر للعدوان عليهم، وإزالة ما يقيمونه من قواعد أو يرسخونه من أصول. ومن ثم كانت الأخوة هي الأسمنت الضروري لصمغ العلاقة بين البشر، بغض النظر عن نوع الإيمان الاسمي أو حتى غياب الإيمان من الأصل، فطالما كانوا بشراً ضمن الملكوت، يعيشون على الأرض، فهم طرف في العهد بحكم المنطق الصحيح والفطرة السوية. في هذا السياق تتجلى العلاقة التي نرمي إلى تأسيسها بين الله والإنسان، فكل سلوك إنساني يؤلم الآخرين أو فعل بشري يهدر العمران الأرضي، ويصيب الأخوة الإنسانية في الصميم، لا يمكن أن يصدر عن أمر الله، لأنه شر أخلاقي والله لا يأمر بشر قط، بل هو نتاج ضعف الإنسان أمام طبيعته الغريزية التي تخلو من الكمال ولو سعت إليه. والله يقبل ضعف الإنسان على أنه نقص، ومصدر للشر، ولكنه مجرد شر أخلاقي يرتكبه الإنسان ويغفره الله له، وليس شراً وجودياً لصيق بالإنسان، أو حتمياً لا يمكن البرء منه، إنه انحناء عرضي في مسيرة الإنسان على الأرض، يمكن تجاوزه بالاستقامة من جديد، بعد توبة واجبة وغفران مؤكد، مهما تكرر الخطأ. أما الإحداثي السيني فلا يخضع للصادي، فالله لا يقبل أن يقتل إنسان إنساناً آخر على طريق دعوته إلى الإيمان أو عقابه على خطأ أو حتى خطيئة، ومن ثم يقر الإسلام بحرمات خمس أساسية هي النفس والمال والعرض والذرية والدين، وهي حرمات مطلقة لا يجوز لأحد النيل منها بأي ذريعة أو مسمى. بل إن الروح القرآني والتعليم النبوي الرائق يفصحان عن ذلك بجلاء عندما يستثنيان من الغفران الإلهي المطلق لخطايا العبد ما يقع منه في حق إنسان آخر، فالله يغفر بإطلاق كل خطايا العبد في ذاته العلية، عدا الشرك به، مهما عظمت أو تكررت، ولكنه لا يغفر ما يقترفه الإنسان من خطايا في حق إنسان آخر، إلا بعفو من الإنسان الذي وقع عليه الظلم أو نال منه الخطأ، كما إنه لا يطلب من أحد عقاب أحد على الشرك به، فهذا شأن خاص به. وعلى هذا يتبدى منتهى الكمال والجلال الإلهي في الرفق بالإنسان، فالله يقيد غفرانه بتسامح الإنسان لأنه بحكمته يعلم كم تنال خطايا الإنسان من الإنسان، وكم تؤلم خطايا الإنسان الإنسان، كون المظلوم ضعيفاً قاصراً، قد يتألم دون قدرة على دفع الألم. أما هو - جل شأنه - فيملك القوة والجبروت، لا يتألم من شيء، بل يستطيع جبر الإنسان على طاعته، أن يحيله ملاكاً يسبح بحمده، ولكنه أراد له أن يبقى إنساناً، مريداً ولكنه خطاء، مختاراً وإن كان ضالاً، يسعى إلى الله بقوة المحبة وليس بإرادة الإرغام. وعلى هذا نستطيع أن نصك معياراً لفرز التدين الصحيح من التدين الزائف، فكل ما يدعو إلى العمران، ويقول بمحبة الإنسان، تدين صحيح. وكل ما يدعو إلى الخراب والموت، ويهدر الحق في الحياة والازدهار تدين زائف، بل هو الشر المطلق الذي يشي بالجانب المظلم في طبيعة الإنسان، إذ يدفعه لوأد الأرواح وتدمير الحياة وتخريب العمران من دون مبررات عقلانية أو أهداف مرعية. ولعل مجزرة بئر العبد التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة شهيد ومائة مصاب تمثل ذروة ذلك الشر المطلق الذي يدفع بصاحبه إلى فضاء الوحشية والعدمية، فهذه وتلك وحدهما، تفسران لماذا وكيف يقتل أناس يفترض أنهم مسلمون مسلمين آخرين وهم يصلون، يعبدون الله في بيته وفى رحابه، فالحدث يبلغ من الوحشية حداً يخرج من الإنسانية، لا يمكن تبريره بأي اختلاف في الطريقة أو المذهب أو حتى في الدين.