خرق صوت أزيز كورال سوريالي الهدوءَ في القطار الذي ركبته صبيحةَ يوم في الاسبوع الماضي متوجهاً الى العمل، وهو صوت إنذار صدح في هواتف الركاب الخليوية محذراً إياهم من زلزال وشيك. وأمسك الجميع بهواتفهم في وقت واحد متخوفين من أن يضرب الزلزال في طوكيو. واتضح أن مركز الزلزال في مقاطعة فوكوشيما. تنفسنا الصعداء وقلنا لأنفسنا: «نجونا من ضرباته»، ولكن مفاعلات المقاطعة الساحلية هذه قد لا تنجو من براثن الهزة، ولا أحد يعرف مصير المفاعلات. وتأخر قطارنا، فأرسلت رسالة قصيرة الى الصديق الذي ينتظرني في موعد عمل قائلاً: «حوادث الحياة أصبحت غير متوقعة أكثر مما هي الحال عليه في موسكو». وسبق له ولي العيش في روسيا، واختبرنا حوادث اضطراب. وعلى ساري عادتي في موسكو، بدأت قبل أيام تخزين مواد أساسية اشتريها في رحلاتي القصيرة إلى الخارج. ويبدو أن العادة الطارئة هذه ليست شأني وحدي، فهي سائرة في أوساط اليابانيين. هل اشتريت البطاريات؟ سألتني مضيفة الطائرة المتوجهة من هونولولو الى طوكيو، من غير سابق معرفة. وهي لم تكن لتبادر الى مثل هذا السؤال قبل الحادي عشر من آذار (مارس)، يوم دمر الزلزال الكبير وموجة التسونامي الهائلة شمال شرق اليابان. وبعد شهر على الانفجار هذا، أشعر أنني أعيش في عالم مختلف، وتبدَّدَ ما كان الى وقت قريب سائراً وبديهياً في المجتمع الياباني، أي الاعتماد على وفرة السلع الغذائية والمادية. والوفرة هذه حملتنا على توقُّع أن تدور عجلة الحياة والأشياء على ما يفترض بها دوراناً منتظماً ومنظماً يَسْهُل التنبؤ به. ويواصل سكان أكثر المناطق تضرراً نضالَ البحث عن مكان للعيش والعمل، في وقت نواصل نحن، سكانَ طوكيو المحظوظين، حياتنا اليومية، ولكن الشعور بالضيق يكاد لا يبارح الواحد منا. سؤال واحد يتردد في أحاديث اليابانيين اليوم، وهو السؤال عما سيحل باليابان، وما الذي ينتظرها. والحيرة والافتقار الى اليقين يرافقانا عند التسوق في المتاجر. ويستوقف اليابانيَّ مسائلُ مثل: هل تناوُلُ السبانخ آمنٌ؟ وهل هي خالية من الإشعاع النووي؟ ومتى تنبعث الصناعة في اليابان إثر الزلزال القاصم؟ الأخبار السيئة لا تنفك تبلغنا، ففي هذا الاسبوع، أعلنت الحكومة توسيع رقعة إجلاء السكان عن الأماكن المنكوبة نووياً، ورفعَتْ مستوى خطورة الحادثة النووية الى أعلى المستويات. وبلغ عدد الضحايا والمفقودين الى اليوم 27 ألف نسمة، والعدد هذا الى ارتفاع، جراء صعوبات ما بعد الكارثة. وعثر على جثة امرأة في ال62 من العمر قضت جراء الصقيع والجليد على مقربة من مقاطعة مييغاتا القريبة من رابع مركز إجلاء قصدَتْه عائلتُها. ويبدو أنها كانت مصابة بالخرف، فغادرت المركز وأضاعت الطريق، فتجمدت أطرافها وفارقت الحياة. وتوفي رجل جراء ثاني أوكسيد الكربون السامّ المنبعث من موقدة غاز صغيرة أشعلها لبثّ الدفء في سيارته اثناء انتظار دوره طوال ليلة كاملة امام محطة وقود. وشنق رجل من فوكوشيما في ال64 من العمر نفسه بعد أن تناهى اليه أن الملفوف العضوي الذي أمضى 10 أعوام في زراعته صار مشعّاً. وبعد ساعات قليلة على وقوف اليابانيين دقيقة صمت في ذكرى مرور شهر على الزلزال والتسونامي، ضربت سلسلة هزات ارتدادية وسطَ وشمالَ اليابان، وهذه مصادفة غريبة. ونقلت شاشات التلفزيون شريطَ صور يظهر صبياً صغيراً يصرخ في مركز إجلاء يهتز على وقع الزلازل، فقسوة الطبيعة وافتقارها الى الرحمة بلغ حداً لا يطاق، وعويل الصبي هذا بدا كأنه مرآةُ تَعَبِ اليابان من القسوة هذه، وبرز عويله وسط معاناة معظم اليابانيين الصامتة. الغضب من الحكومة وشركة كهرباء طوكيو كبير، جرّاء سوء إدارتهما الأزمة وتسترهما على هول الكارثة. ولكن ميل اليابانيين الى التسليم بما كُتب لهم شدَّ لُحْمَتهم وعزَّزَ تماسكهم، والكارثة أسهمت في تخفيف التزامنا القواعد الاجتماعية وجعلتنا ننظر الى الآخر بشيء من الرحمة. قبل أيام، سمعت سيدة تروي لصديق حادثة صغيرة، فهي تنزعج من الناس الذين يقفون في طريق المستعجلين من ركاب الدرج الكهربائي، ولا يتنحَّوْن جانباً إفساحاً للطريق أمامهم، على ما هو متعارف عليه في المجتمع الياباني. وتوقفت عن الكلام لتقول: «ثم فكرت، ربما تكون الأسرة هذه التي تسد طريق الآخرين منكوبة وأجليت الى طوكيو. ولذا، لم أعترض ولم أقل شيئاً». قد يبدو إحجام هذه السيدة عن الاعتراض مساومةً لا يُعْتَدّ بها أو تنازُلٌ تافه، ولكن تشبث اليابانيين باحترام مثل هذه المعايير هو سمة تميِّزهم عن مجتمعات العالم الأخرى، وربما تسهم في إحكام عزلتهم. عندما عاد ابني الى المدرسة هذا الشهر، استقبل المعلمون التلامذةَ بعبارات لا تتستر على الميل الى غيرية لم يألفْها اليابانيون من قبل، فالمعلمة توجهت الى التلامذة قائلة: «ربما شعر الواحد منكم بالأسف على المنكوبين، أو ربما فكر بأن معاناتهم قاسية. ولو اقتصر ما قدمه الواحد منكم على التعاطف أو مثل هذه الافكار فهو أفضل من اللامبالاة... فالزلزال هو فرصة لاختبار التعاطف مع الآخرين وآلامهم». ويولي سكان المناطق المنكوبة الأهمية لإصلاح أحوال المجتمع الياباني كله، فصديق يقيم على بعد 50 كيلومتراً عن المفاعلات النووية وجَّه لي رسالة إلكترونية يقول فيها: «إذا اعتبرنا بما حصل، وانتهجنا سياسة طاقة جديدة، فهذا عزاء لنا في المستقبل». * كاتب ياباني ومترجم، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 13/4/2011، إعداد منال نحاس.