عندما كنا صغاراً كان الكبار يخوفوننا بكائنات خرافية هائلة الحجم، ومقززة الشكل، وشديدة البطش، تجوب حقول الليل بحثاً عن الصغار ممن لا يسمعون كلام الكبار، لم تكن تلك الكائنات الليلية المتعطشة للحوم الأطفال الشهية وعظامهم الطرية سوى خرافة ظلت الأجيال تتوارثها قرناً بعد قرن وتحت أسماء وصفات متباينة، ففي نجد، كانت تسمى ب «السعلوة»، وفي الحجاز، كانت تدعى ب «الدجيلة»، وهي أقرب ما تكون لشخصية «دراكولا»، لأنها كانت من هواة مص الدماء، أما أهالي الجنوب فكانوا أوسع خيالاً، إذ صنعت المخيلة الجنوبية فرقة دموية مكونة من سبعة أنفار من الجن، وأطلقوا عليها اسم «سبعة»، وفي ضفاف الخليج، كانت «أم السعف والليف»، و«أم حمار» تتجولان هناك زارعتين الرعب أينما ذهبا. لقد شاخت تلك الشخصيات «الهيتشكوكية»، ودق عظمها، ورق جلدها، وتساقطت أسنانها، لم يعد ل «السعلوة» وأخواتها مكان في قلب الظلام، وخيال المسافر، وعقل الصغير، تعيش «السعلوة» على حواف السكون وفي سهول الظلام، كثرة الأضواء وزحمة الأقدام وعجلات السيارات أشعلت ليلنا نهاراً، الضوء والضجيج وأبواق السيارات نفت «السعلوة» إلى عوالم النسيان، كبرنا، وكبر صغارنا، وتوسعت مداركنا، وزادت معارفنا، فماتت «السعلوة» وأخواتها. كان الآباء قديماً يخوفون الصغار ب «السعلوة» لكي يسمعوا الكلام ويناموا، الآن، بعض المتدينين «المتشددين» يخوفوننا، كباراً وصغاراً، بحكايات لا تقل رعباً عن «السعلوة» ورفيقاتها، إن لم تكن أشد رعباً. عندما كنت صغيراً لم أسمع حكايات التخويف والترهيب كالتي يصبها بعض هؤلاء في آذاننا ورؤوسنا منذ عقود ثلاثة فوق المنابر وفي المدارس وعبر وسائل الإعلام، اليوم، بعض المتدينين، بسلطتهم، يبتدعون حكايات من نوع آخر من أجل تطويع المتلقي، وضبط سلوكياته، وتوجيه أفكاره. إن هولاء المزايدين على الدين لا يستحضرون خرافات الغيلان والجان، بل يستحضرون أنواعاً أشد وأنكى، مثل الموت، والمسخ، والزلازل، والبراكين، والفيضانات، والأوبئة، أستطيع من كثرة ما سمعت من القصص أن أميز بين نوعين: الأول يقوم على نسج حكاية قصيرة، تدور غالباً حول فرد، وتنتهي بنهاية مروعة، والثاني يقوم على استثمار مأساة جماعية إنسانية كالزلازل والفيضانات، يحمل النوع الأول من القصص رسائل تتعلق بتقويم سلوكيات دينية معينة، مثل الغناء ونتف الحواجب والتقاعس في أداء الصلوات، وما إلى ذلك، أما النوع الثاني فيحمل رسائل للتذكير بأن عين الله ساهرة لا تنام وأنه للعصاة والغافلين دوماً بالمرصاد. فمن أمثلة النوع الأول، وجدت في إحدى كبائن الهاتف ملصقاً يحوي حكاية عجيبة لفتاة توفيت في العشرينات من عمرها، عندما وضع جسدها فوق طاولة غسيل الموتى كان وجهها ينقلب إلى الوراء(!) استنفدت محاولات عدة لإعادة الرأس إلى الوضع الطبيعي بلا جدوى. ذهبت العاملة في شيء من التردد إلى ذوي الفتاة وأخبرتهم بما جرى، ثم تساءلت عما إذا كانت الفتاة في حياتها تحافظ على العبادات، فأخبرتها الأم أن ابنتها كانت ملتزمة بشرائع الإسلام باستثناء شيء واحد فقط، ما هو؟ كانت الفتاة تضع عباءتها على كتفيها وليس على رأسها! وأما النوع الثاني، فلا يستلزم جهداً للتأليف ولا وقتاً للتفكير، يكفي أن تلتقط أي كارثة بيئية أو مصيبة إنسانية لتختزلها في صورة غضب إلهي، أو انتقام رباني على عباده الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي، والأمثلة على هذا لا حصر لها، من زلزال اليابان إلى كاترينا أميركا، ومن حرائق روسيا إلى فيضانات جدة، كل تلك النوازل هي حصاد ما زرعته أيدي العباد الظالمين والمفسدين. وكما كان الآباء يخوِّفون صغارهم من الذهاب بعيداً حتى لا تختطفهم «السعلوة» وتبتلعهم، يخوف بعض المتدينين كل من يصدر عنه فعل لا يعجبهم، أو يبدي رأياً لا يرضيهم بالقول: «استغفر ربك! تبي السقف يطيح علينا؟!»، لقد أصبح المرء يتردد في أن يفعل ما لا يعجبهم، أو يقول ما لا يرضيهم، حتى لا يهدد ب «تبي السقف يطيح علينا؟!»، ألا يسأل هؤلاء الخائفون من سقوط السقف فوق رؤوسهم: لماذا يأخذهم الله بجريرة رجل واحد؟ أليس الله عز وجل قال في محكم تنزيله (ولا تزر وازرة وزر أخرى). * كاتب سعودي.