أمسكت يده وضغطت. سقط الذراع. تطاير دم غزير بضربة ساطور، تدحرج الرأس، والتقطه بسرعة مذهلة، شيء مخيف غير واضح المعالم. زادت موسيقى تشويقية مخيفة من تسارع دقات قلبها. انكمشت أكثر في جلستها. زاد الضغط على يده. حاول تخليصها، فشعر بألم صاعق، صرخ في وجهها، فقفزت من مكانها، وكأن الشيء الغامض انقض عليها. اعتذرت منه وفرائصها ترتعد من هول المباغتة. أخلت سبيل يده، واستغل هو الفرصة، ليغير القناة التلفزيونية، وكما لو أن روح الشيء الغامض تقمصتها، انتشلت جهاز التحكم من بعد من بين يديه. تجمعهما أشياء كثيرة مشتركة، الأفكار والأحلام والعمل والأذواق... ليس كل الأذواق في حقيقة الأمر. يختلفان في الذوق الفني... ولكن ليس كل أنواع الفن وأشكاله. تحب الرسم، وهو يمارسه. تعشق الغناء، وهو يستمتع بصوتها. لا خلاف على المسرح بأنواعه، والسينما عشق آخر مشترك، لكنه يجمع بينهما بمقدار ما يفرق بينهما. هي تهوى أفلام الرعب، وهو يفضل أفلام الآكشن. وبين الرعب والآكشن، نشأ الخلاف بين الزوجين، وعصف بكل الأشياء الأخرى المشتركة والأساسية، لينتهي نهاية تستحق أن تصنع فيلماً كوميدياً فاشلاً، بحبكة غير مقنعة، ففي بعض الأحيان، يكون الواقع أقل إقناعاً من الخيال بكثير. ذات موعد سينمائي بينهما خارج المنزل نهاية الأسبوع، وبعد جولة استطلاعية صغيرة عبر إعلانات دور السينما، قررت وفاء أن يستمتعا بمشاهدة فيلم رعب لم يكن حقق أي نجاح يذكر في شباك التذاكر. أصرت على اختيارها. تحسّس إلياس أثر الأظافر على سطح جلد يده اليمنى، وقرر أن لا رعب بعد اليوم. تركها وحيدة أمام باب القاعة السينمائية ممسكة بتذكرتي الفيلم. نادت عليه مراراً، لم يستجب، لكنه أيقن في قرارة نفسه أن زوجته تستحضر في تلك اللحظة أفظع مشاهد الرعب التي شاهدتها في حياتها السينمائية الحافلة بالأهوال، متمنية من أعماق قلبها لو تنطبق عليه، كي «تستمتع» بالثأر لكرامتها التي أهينت أمام الناس. «ألم يكن بإمكانهما الالتقاء في السينما الهندية مثلاً؟»، قال أخ الزوجة. عاجلته أختهما: «أراك في صف زوجها المهووس بالفنون القتالية والمبارزة بالكلاشنيكوف، الفيلم الهندي فيه كثير من الآكشن، وليس فيه رعب على الإطلاق». تطلعت إليهما الزوجة بنظرات فارغة. يوم شاهدت فيلم الرعب وحيدة في آخر موعد سينمائي بينهما، فقدت متعة الشعور بالتشويق المرعب. عرت مشاعر الغضب التي تملكتها حينها جميع المؤثرات السينمائية، أو أقله، ألهتها عن التوحد مع الخوف. عادت متأخرة من السينما، ونشب بينهما فيلم عنف شفوي حول إدمان الرعب والأكشن، غادرت إثره الزوجة عش الزوجية، وطالبت بالطلاق. منذئذ، توقفت عن أخذ جرعتها اليومية من الرعب. مر شهر كامل، لم يسأل عنها زوجها، وسمعت من أهله أنه يحضر بجدية للطلاق. وذات يوم، التقيا عند قاضي الأحوال الشخصية، ومضى كل منهما في طريق. العناد والوقوف عند طرفي النقيض قد يقوّض حياة الأسرة، مهما كانت أسس البيت متينة، ومهما كانت تفاهة الخلاف، ومهما كان المستوى الثقافي والاجتماعي للطرفين، فالانتصار للذات الجريحة والأنا المتصلبة يقود أحياناً بعض الأزواج إلى التضحية بكل شيء، كما يبدو. وفي بعض الأحيان، يقود التسلط والأنانية والجهل إلى النتيجة، نفسها وتلك قصة سكينة وكمال. كل ما يمت إليه بصلة، ابتداء من الصندل البلاستيكي إلى موقع مقعده من شاشة التلفزيون، مشمول بالحصانة من كل المؤثرات البشرية والطبيعية. لصندله الأصفر الفاقع مكان مميز من مدخل البيت، لا تخطئه العين. محاولتان فقط لإبعاده عن الأنظار غيرا نظرة الزوجة إلى الصندل المقيت، وصارت تراه جميلاً مثل قطعة ديكور ضرورية لرونق المدخل. فوضى ثياب دائمة في غرفة النوم، لا تملك الزوجة أن ترتبها، وإلا سمعت ما لا يرضيها، فزمجرة واحدة منه توقف آخر شعرة في رأسها. ذات يوم، نسيت سكينة الملابس في السطح، وهطل مطر غزير ليلتها. سأل كمال عن ملابسه، وأخبرته الزوجة بأنها تبللت بأمطار الخير، وقبل أن تكمل اقتراح ملابس أخرى، تبلل وجهها بدموع حارة، وانطبعت على صفحة خدها آثار أصابع صفعة صاعقة. «أحاول ألا يصل إلى ضربي بتجنب الأشياء التي تثير غضبه»، على النحو، تحملت سكينة بصبر وصمت حياتها مع زوجها «البركاني»، إلى اليوم الذي «ارتكبت» فيه المسكينة الخطيئة الكبرى. كان الزوج مدعواً لحفل خطوبة أحد زملائه في المعمل، وطلب منها تجهيز ثيابه. كانت لديه بذلة وحيدة لكل المناسبات، قماشها سريع الانكماش. وضعت سكينة المكواة القديمة المعطلة فوق النار. أرهقها كيّ السروال، وقاربت أن تنتهي من القميص، وإذا بالمكواة تحرق أحد الكمين. أيقنت أن يومها سيكون أسود، ولكنها لم تتوقع أن يكون ذلك آخر يوم لها مع كمال. بعد بضعة أشهر من الطلاق، حاول كمال استعادة طليقته، وهذه المرة، كانت سكينة هي من يملك القرار، وقررت ألا تدع صندلاً ومكواة يصنعان مصيرها.