ترعى الأممالمتحدة في جنيف الجولة الثامنة من المفاوضات بين الحكومة والمعارضة السوريتين في إطار الجهود الدبلوماسية لإيجاد تسوية سياسية للنزاع المستمر منذ أكثر من ست سنوات. ولم تثمر الجولات الماضية أي نتيجة، وكانت دائماً تصطدم بالخلاف حول مصير الرئيس بشار اللأسد الذي تطالب المعارضة برحيله وتصر الحكومة على أن الموضوع غير قابل للنقاش. وتتزامن الجولة الجديدة مع انتصارات متلاحقة تحققها قوات النظام السوري على الأرض، كما مع جهد دبلوماسي مستمر تقوده كل من روسيا وإيران، أبرز حلفاء النظام وتركيا الداعمة للمعارضة. منذ بدء مفاوضات جنيف برعاية الأممالمتحدة في بداية 2016، تشارك الحكومة السورية عبر وفد من شخصيات سياسية لا يبرز منها سوى رئيس الوفد مندوب سورية الدائم لدى الأممالمتحدة بشار الجعفري. وتأتي مفاوضات جنيف المرتقبة حالياً في وقت استلمت فيه القوات الحكومية، بدعم من حلفائها، وخصوصاً روسيا، زمام المبادرة على الأرض في مواجهة تنظيم «داعش» والفصائل المعارضة على حد سواء، وباتت تسيطر على 55 في المئة من مساحة البلاد. وتزامن هذا التقدم مع تراجع قوة الفصائل المعارضة وتشرذمها، ما عزز مكانة الأسد. ولطالما شكل مصير الأسد العقبة الأبرز التي اصطدمت بها سبع جولات سابقة من المفاوضات في جنيف، إذ تتمسك المعارضة برحيله، فيما ترفض دمشق بالمطلق بحث هذا المطلب، وتقترح تشكيل حكومة وحدة موسعة تضم ممثلين عن المعارضة «الوطنية» وعن السلطة الحالية. وخلال السنتين الأخيرتين، غضت دول غربية وأوروبية النظر عن مطلب رحيل الأسد، من دون أن تقدم على فتح قنوات تواصل رسمية معه. وشاركت أطياف واسعة من قوى المعارضة الرئيسة، على رأسها «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، وبينها فصائل مسلحة مقاتلة، خلال العامين الماضيين في جولات عدة من مفاوضات جنيف. ومنذ كانون الأول (ديسمبر) 2015، تشكلت «الهيئة العليا للمفاوضات» في الرياض التي جمعت أطيافاً واسعة من المعارضة والمقاتلين. وتمسكت الهيئة خلال جولات جنيف على تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات مشترطة رحيل الأسد مع بدء المرحلة الانتقالية. ومنذ تشكيلها، اعتبرت الهيئة الممثل الوحيد والشرعي للشعب السوري، ورفضت طيلة الجولات الأخيرة جلوس معارضين آخرين على طاولة المحادثات. إلا أن الأممالمتحدة لم تكتف بدعوتها وحدها إلى جنيف، بل كانت تتم دعوة وفدين آخرين ممثلين لمنصة موسكو القريبة من روسيا ويرأسها نائب رئيس الوزراء السوري السابق قدري جميل، ومنصة القاهرة التي تضم معارضين مستقلين بينهم الممثل جمال سليمان. وطالما كان وفد «الهيئة العليا للمفاوضات» أكبر الوفود المشاركة لكونه يضم أطرافاً عدة من «الائتلاف الوطني» وفصائل مسلحة وهيئة التنسيق الوطنية (من معارضة الداخل). وكانت الهيئة تأخذ على منصتي موسكووالقاهرة أنهما أقل تشدداً في مقاربتهما لملف المرحلة الانتقالية، وخصوصاً مصير الرئيس السوري. وخلال الجولات التفاوضية السابقة، انتقد النظام السوري وحليفته روسيا المعارضة على اعتبار أنها غير موحدة. واستبعد وفد الحكومة السورية مرات عدة المفاوضات المباشرة، متهماً تارة الفصائل المعارضة بأنها «إرهابية» ومتحججاً طوراً بالانقسام في صفوف محاوريه، ومشيراً إلى أنها لا تمثل السوريين وأنها مرتهنة للخارج. وبعد فشل تلك الجولات، ونتيجة ضغوط دولية، عقدت المعارضة السورية اجتماعاً موسعاً في 22 كانون الثاني (يناير) في الرياض، بهدف تشكيل وفد موحد إلى جنيف. وشارك في الاجتماع نحو 140 شخصية يمثلون قوى المعارضة الرئيسية وعلى رأسها «الائتلاف الوطني»، إضافة إلى منصتي موسكووالقاهرة. وبعد ثلاثة أيام من المباحثات المكثفة، اتفقت قوة المعارضة على توسيع «الهيئة العليا للمفاوضات» لتصبح هيئة تفاوضية موحدة وتشارك في مفاوضات جنيف في 28 تشرين الثاني (نوفمبر). وتتألف الهيئة الجديدة من 36 عضواً، هم ثمانية من الائتلاف، وأربعة من منصة القاهرة، وأربعة من منصة موسكو، وثمانية مستقلين، وسبعة من الفصائل، وخمسة من هيئة التنسيق. وتم اختيار نصر الحريري منسقاً عاماً للهيئة الجديدة ورئيساً لوفدها المفاوض إلى جنيف، وهو كان ترأس الوفد المفاوض في جولات سابقة. وأعلنت الهيئة الجديدة فور تشكيلها استعدادها لإجراء مفاوضات مباشرة مع النظام، وهو أمر طالما دعت إليه سابقاً. كما شددت على «خروج نظام بشار الأسد من الحكم»، الأمر الذي «تحفظت» عليه منصة موسكو. وتبنى الدبلوماسي المخضرم والمبعوث الخاص للأمم المتحدة لسورية ستيفان دي ميستورا موقفاً متفائلاً على امتداد أزمات عالمية مختلفة، لكنه يصطدم منذ قرابة ثلاث سنوات بمأزق النزاع السوري. في تموز (يوليو) 2014، كلف هذا الإيطالي- السويدي (70 عاماً) الذي يتحدث سبع لغات واعتبره الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون «دبلوماسياً من الصف الأول»، ملف «المهمة المستحيلة». وقبله، شغل هذا المنصب الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان، ثم وزير الخارجية الجزائري السابق الأخضر الإبراهيمي، واستقالا بعد عجز عن إحراز أي تقدم. وفي مقابلة مع قناة «الجزيرة» عام 2015، قال دي ميستورا «أعاني من مرض التفاؤل المزمن». ويعرف عن دي ميستورا اقتراحه لحلول غير تقليدية. في أوج معركة حلب التي علق فيها حوالى 250 ألف مدني في شرق المدينة عام 2016، اقترح التوجه شخصياً إليها لضمان ممر آمن للفصائل المعارضة إذا وافقت على الانسحاب. ومنذ بداية 2016، نجح دي ميستورا في إحضار ممثلي الحكومة السورية والفصائل المعارضة سبع مرات إلى جنيف. وعلى رغم أن الجولات لم تسفر عن أي نتيجة، لم يفقد الأمل.