تلهمنا حكمة التاريخ بأن كل فكر مثالي يتعالى على الواقع، يتعرض للانحراف إلى موقف نقيض، متطرف وربما عنصري في لحظة تحولية ما، وكلما زادت مثاليته زادت حدة تطرفه وهو يسعى إلى السيطرة على المصير الإنساني كله وصبه في قوالب محددة سلفاً. وعندما يزداد الفكر تطرفاً تنمو نزعته الصدامية فيكون فشله أكثر احتمالاً، وتراجعه أكثر عمقاً ولعل هذا هو السبب في أن كل الأفكار المثالية، والحركات الراديكالية ظلت دائماً على هامش التاريخ. ربما تعالى وقع خطواتها أحياناً، ولكن كقوة معارضة للتاريخ الرسمي الذي تحكمت في صناعته القوى والأفكار الأكثر اعتدالاً وعقلانية واستلهاماً لسنن الاجتماع البشري واحتراماً لتنوعه وتباينه وتناقضه، بل وتسامحاً مع ضعفه وعقد نقصه أحياناً، من دون محاولة السيطرة الكاملة على مسيرته أو لي عنقه باتجاه حتميات من أي نوع، دينية كانت أو فلسفية أو سياسية. في هذا السياق فشل التيار القومي العربي في صناعة موجة تاريخية طويلة الأجل بعد سطوع لم يكمل عقوداً ثلاثة، حينما غطى على «العروبة الثقافية» بأيديولوجية سياسية حاول أن يفرضها على الجميع على طريقة تصدير الثورة الخمينية، متجاوزاً واقع الدولة الوطنية العربية الجديدة التي كانت في طور الرسوخ السياسي، على أرضية تباينات ثقافية محلية لا يمكن إنكارها كتنويعة على الثقافة القومية الجامعة. ومن ثم كانت الاشتباكات العديدة بين ما سمي لوقت طويل «النظم التقدمية» و «النظم الرجعية»، أو بين النظم الجمهورية الثورية والنظم الملكية المحافظة، خصوصاً تلك التي وقعت في اليمن واستنزفت الجيش المصري ومهدت الطريق إلى هزيمة حزيران (يونيو) 1967. كما كانت الانشقاقات داخل المعسكر التقدمي نفسه سواء بين مصر وسورية أعقاب الوحدة القصيرة حيث تم الافتراق بين الناصرية والبعثية، أو داخل التيار البعثي نفسه داخل العراق من ناحية وسورية من ناحية أخرى. والمفارقة هنا أن النظم الموصوفة بالرجعية هي التي استمرت، وربما وجدت لدى بعضها نزعات إصلاحية متنامية، وتبقى مشكلاتها مع التحديث قائمة بالفعل ولكنها تعاني من أزمات واقعية أقل كما تتمتع بدرجة استمرارية أعلى. وفي المقابل، يتأكد اليوم ما كان معروفاً بالأمس من فشل التيار الإسلامي في قيادة مصر، وهو فشل مرشح للتعميم عربياً، مكتفياً اليوم بالدور نفسه الذي لعبه في الماضي وهو مشاكسة النظم القائمة، وتكوين معارضات تواجهها فقط، سواء شرعية من داخلها أو عنيفة من خارجها؛ ذلك أنه لم يقدم فكرة واحدة بناءة تتفق وحركة التاريخ الإنساني، فيما حاول خنق القيم الحضارية للإسلام، في تعدده وتفتحه وتسامحه ونزوعه إلى التوحيد والتكتيل، بحبل الإسلام السياسي، وعلى مذبح طبيعته الأيديولوجية المنغلقة النازعة إلى التفكيك والتناحر، فأثار المشكلات الطائفية والمذهبية، وفجر الكثير من الفتن السياسية داخل مصر ومع المحيط العربي على نحو وضع العراقيل على طريقه، وقاد إلى حصاره ثم فشله. والمفارقة الواضحة هنا هي أن دول الخليج العربي التي دخلت في تناقض مع موجة الانتشار المصري في العهد الناصري، هي نفسها، تقريباً، التي دخلت في تناقض مشابه وفي مدى زمني أسرع مع موجة الانتشار التي حاول الإخوان ممارستها بمد أذرعهم داخل الكثير منها. وبالطبع يقع ضمن هذا التشابه العام قدر من التناقض في التفاصيل، بين طرائق التدخل، ونمط الانتشار والبؤر المستهدفة، وطبيعة التحالفات الإقليمية والارتباطات العالمية بمراكز القوة والنفوذ بين الموجة الأولى التي جسدها جمال عبد الناصر والبعثيون، وبين الموجة الثانية التي جسدها الإخوان والسلفيون، وهو أمر لا يجعل هاتين الموجتين متعادلتين عند التقييم التاريخي سواء في القيمة الحضارية أو التوجه الإنساني، إلا أن المغزى يبقى واحداً وهو أن تطرف العروبة في الأدلجة القومية، وتعاليها على الدولة الوطنية، وانتهاج وسائل قسرية للانتشار الإقليمي قاد إلى ممانعة وصدام أفضيا إلى هزيمة وتراجع أمام الخارج. كما أن التطرف في الدفع بالإسلام بعيداً عن قيمه الحضارية المؤسسة، والإفراط في توريطه الانتهازي في أتون الصراعات السياسية، مع انتهاج وسائل خلفية للانتشار الإقليمي، قد أفضى إلى هزيمة في الداخل وليس في الخارج هذه المرة، بل إنها أفضت إلى تعلق بالخارج، والدأب في محاولة استدعائه للخلاص من هزيمة الداخل، ما يبرز أحد أهم التباينات بين موجة الانتشار الناصرية ومحاولة الانتشار الإخوانية التي لم تبلغ حد الموجة، وهو مركزية الحس الوطني في الأولى، وهامشيته وربما غيابه في الثانية. ما نود أن نصل إليه في اللحظة الراهنة، على ضوء هذه القراءة التاريخية، هو التأكيد على حقيقة مركزية وشت بها خبرة القرن العشرين، على الأقل، وهي أن المكون الإسلامي يتشارك مع المكون العربي في صوغ هوية منطقتنا الحضارية هذه، كما يتناوبان حراستها بمعنى ما، فإذا ما توارت الأخيرة يسطع الأول والعكس صحيح. وينبثق من تلك الملاحظة الأولية أخرى فرعية، وهي أن التطرف في اتجاه أحد هذين المكونين يقوض فرصه في النجاح، ومن ثم تبدو مجتمعاتنا كافة بحاجة شديدة إلى التصالح مع نفسها، إلى الجمع السلس وربما الجدلي بين مرجعيتيها الكبريين: العربية والإسلامية بعد أن أفرطت في التعويل على أيهما في مراحل مختلفة من تطورها، وبعد أن تنكرت كل مرجعية منهما إلى الأخرى تحت ضغط الأدلجة وضيق الأفق وغياب الخيال الجامع، على نحو أوعز لكلتيهما، وإن بدرجات مشروعية متباينة، بالقدرة على صوغ المستقبل والتحكم بحركة التاريخ العربي. ومن ثم فإن تلك المصالحة لن تكون ممكنة، ناهيك عن أن تكون دائمة ومنتجة، من دون تخلي كل منهما عن مثاليتها التي أودت بها إلى ضيق الأفق. فعلى المرجعية العربية أن تتخلى عن القومية كأيديولوجيا سياسية توحيدية، وكفكرة عدوانية مشاكسة، ومشروع ثوري قابل للتصدير، ولكن من دون تنازل بالطبع عن الهوية الحضارية التي لا يمكن التنازل عنها أصلاً. وعلى المرجعية الإسلامية في المقابل أن تتنازل عن مطامعها السياسية، ونزعتها الجهادية التي لم يعد لها معنى في العالم الحديث، وأن تقبل بالروح الوطنية الجامعة، وبالعلمانية السياسية، ولكن من دون تخلٍ بالطبع عن مكوناتها القيمية والحضارية، وهنا نكون أمام عروبة بلا أدلجة قومية، وإسلام بلا نزوع سياسي أو جهادي، وتكون المصالحة التاريخية أمراً ممكناً وأفقاً واعداً. * كاتب مصري