لا شك في أن الشباب التونسي حين قام بثورته من أجل الكرامة والحرية وإنهاء سنوات من الظلم والدكتاتورية لم يكن يتصوّر أن تصبح للثورة التي ألهمت دولاً عربية عدّة أهداف مختلفة عن تلك التي رسمها محركوها. أهداف جديدة تمت صياغتها من قبل أطراف أخرى بدأت ملامحها تظهر بعد الثورة التونسية لتوصف بعبارات عدة أبرزها ركوب الثورة والالتفاف على مطالبها. فهذه العبارات التي أصبحت كثيرة التداول بين مختلف فئات الشعب التونسي تحوّلت بعد فترة إلى ظاهرة تشكّل تهديداً لمستقبل تونس ومن ضحوا بالغالي والنفيس من أجل إسقاط رموز النظام السابق وأتباعه. إلا أن هذه الدعوات لحماية الثورة التونسية صدرت عن جهات لم تسجل بشهادة كثيرين حضوراً ولا مشاركة فعالة خلال الثورة وإنما جاءت وفي مرحلة انتقالية دقيقة من تاريخ تونس لتتموقع من جديد في مشهد سياسي يحتدم فيه التجاذب بين أطراف سياسية عدّة لتقدّم تصورات تتضمّن في ابرز مقترحاتها اعترافاً ضمنياً بأن الشباب هم من قاموا بالثورة، إلا أن المرحلة الانتقالية تتطلب جيلاً أكثر نضجاً ليتمكن من إيصال البلاد إلى برّ الأمان. مقاربة فكرية قدّمتها هذه الأطراف سواء كانت أحزاباً أم منظمات أطفت على السطح مشكلة الصراع بين جيلين: جيل الشباب الذي خرج الى شوارع المدن التونسية واستشهد ليقطع مع نظام بن علي بوسائل حديثة أبرزها النضال الافتراضي عبر الانترنت، وجيل ثانٍ أكبر سناً يرى أن مستقبل البلاد يتطلب خبرة وحنكة سياسية يفتقر إليها الشباب. ويقول أستاذ التاريخ عبد الحميد الأرقش في هذا السياق إن المتأمل في تاريخ الثورات في العالم سواء كانت ثورات فكرية أم اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية يتوصّل إلى أن الفئات الشابة هي التي حملت أفكاراً ومُثلاً وتصوّرات جديدة إلى مجتمعاتها، في حين أن فكرة الشدّ إلى الوراء والتمسك بالأفكار القديمة اقترنت بكبار السن. وأشار الأرقش إلى أن الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي حين كتب أغاني الحياة لم يتجاوز عمره العقدين وأن الطاهر الحداد صاحب كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع الذي حرّر المرأة التونسية كان آنذاك في سن الثلاثين. وبالتالي، يقول الأرقش، «إن صراع الأجيال هو جزء من العلاقة الجدلية الناتجة من التوارث والتعاقب بين الأجيال ما يجعل هذا الصراع ضرورة تاريخية باعتباره محركاً للتجديد». ولمّا كان التجديد نابعاً من روح الشباب، يضيف الأرقش، «فإن الشباب وظّف طرقاً جديدة للنضال عبر وسائل الاتصال الحديثة في الفعل السياسي غابت شئنا أو أبينا عن الجيل القديم الذي لم يقتنع بقدرة وسائل الشباب الجديدة على إحداث التغيير». وأمام الفكرة السائدة التي تعتبر الثورة التونسية ثورة بلا رأس قام بها شباب من دون قيادات سياسية، يبين الأرقش «أن هذه الفكرة شكلت المنفذ أمام القيادات القديمة لتبرز من جديد وتخلق نوعاً من أزمة ثقة بين الشباب الذي هو في قلب معركة التغيير وبين بعض الأطراف السياسية التي تعتقد أنها خُلقت لكي تقود». وتؤكد المدونة والأستاذة الجامعية لينا بن مهني أن الشباب التونسي وهي منهم، اثبت للجميع انه قادر على إحداث التغيير وتحمّل كل المضايقات والتهديدات التي أودت خلال الثورة بحياة عدد كبير منهم، الأمر الذي جعل الجيل الأكبر سناً يؤمن بجدوى النضال عبر الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وصولاً إلى الخروج إلى الشوارع والقطع مع كل وسائل التخويف وتكميم الأفواه. ولكن هذا الاقتناع بحسب بن مهني، «لم يتجسّد في المرحلة الانتقالية بالطريقة المطلوبة لأن فئة الشباب أقصيت من مواقع القرار وتناسى كثيرون ممن يشغلون المناصب العليا في الحكومة الموقتة دور الشباب الذي استمات من أجل الحرية والكرامة». وتقول بن مهني إنها لم تلاحظ أي تغيير في السياسات المعتمدة في الفترة الحالية باعتبار أنها لا ترى إلا «أشخاصاً يركبون على الثورة ويتسابقون للجلوس على الكراسي من دون برامج واضحة تستجيب لمطالب الشعب بكل فئاته ومن دون الأخذ في الاعتبار أنه لا بدّ من وجود نفس شاب في الحكومة الموقتة وفي الحكومة المقبلة». وتتساءل بن مهني عن الأسباب التي تجعل الجيل الأكبر سناً يعتقد أن شباب الثورة غير مؤهل لتقلّد مناصب ومسؤوليات في المرحلة المقبلة بحجة نقص الخبرة، موضحة أن «الخبرة مطلوبة إلا أن وجود الشباب ضروري لتجديد للطبقة السياسية». ولما كان الشباب الذي قاد الثورة يشعر بهذا التهميش، يقول هشام قلال (طالب): «وجود جيل من الساسة القدامى على رأس السلطة خلال فترة الحكومة الموقتة قد يسهم في إعادة الأمور إلى نصابها في ظل حالة الاضطراب وعدم الاستقرار التي تشهدها البلاد».