انطلاقاً من الثورة المدنية المشتعلة في أرجاء العالم العربي، أطلقت مجموعة تسمي نفسها باسم «روح جديدة» تضم نحو ستين من المثقفين الإسرائيليين اليهود الشباب ذوي الأصول العربية مبادرة غير مسبوقة، في هيئة رسالة موجهة «إلى مجايليهم من المثقفين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» نُشرت في بضعة مواقع إلكترونية حاملة دعوة إلى إجراء حوار إقليمي معمّق تكون غايته دمج اليهود العرب أو الشرقيين في إسرائيل ضمن تاريخ المنطقة العربية وثقافتها، والى «تصحيح وترميم كل ما تمّ تدميره في الفترات الأخيرة» على صعيد العلاقات العربية - اليهودية، بما يشكل «مفتاحاً لاستئناف الشراكة الإسلامية - اليهودية - المسيحية التي ازدهرت إبان عصر الأندلس الذهبي». وأكد هؤلاء أن هذه الشراكة تظل قبل أي شيء رهن إنجاز عناصر متعددة على غرار المواطنة الديموقراطية المتساوية، والعدالة في توزيع الموارد الاقتصادية وفي تأمين فرص العمل والتربية والتعليم، وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، وقبول بني البشر كافة، بغضّ النظر عن معتقداتهم ولون بشرتهم وجنسهم ومكانتهم وميولهم الاجتماعية والعاطفية وانتماءاتهم الدينية والإثنية، ومشددين على ضرورة الالتزام بتحقيق هذه الغايات من خلال الحوار المستمر بين سكان المنطقة كلهم، فضلاً عن الحوار مع يهود من جماعات متعددة في البلد وخارجه. ولفت الموقّعون على الرسالة إلى أنهم من ذراري يهود عاشوا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ مئات او آلاف الأعوام، وساهموا كغيرهم في ثقافة المنطقة وكانوا جزءاً أصيلاً منها، ولذا فإن «ثقافة البلدان الإسلامية وشعور الانتماء العميق إلى هذه المنطقة من العالم هما جزء لا يتجزأ من هويتنا الخاصة، ومن التاريخ الديني والثقافي واللغوي للحيّز الشرق أوسطي والإفريقي الشمالي، على رغم أن هؤلاء اليهود كانوا ضحايا أنساق من التناسي في سياق هذا التاريخ، بداية في إسرائيل التي لا تنفك تصوّر نفسها على أنها الفيصل بين القارة الأوروبية وشمال إفريقيا، وثانياً في العالم العربي الذي يبدو أنه سلّم بالانشطارية المتضادة بين اليهود والعرب وبتصوير اليهود على أنهم أوروبيون وآثر أن يهمّش تاريخ اليهود العرب في ماضيه أو أن يقصيه منه كلياً، وثالثاً في أوساط الفئات اليهودية الشرقية نفسها التي خجلت من ماضيها المشترك مع الشعوب العربية وحاولت أن تندمج وتساير التيارات المهيمنة على المجتمع الإسرائيلي. وفضلاً عن ذلك كله، فإن التأثيرات المتبادلة بين الثقافتين اليهودية والعربية على مرّ التاريخ تعرضت لعمليات محو شديدة الوطأة، لكنها رويداً رويداً أخذت تبرز في فضاءات حياتية مختلفة مثل الموسيقى والصلوات الدينية واللغة والأدب». وقال الموقعون على الرسالة إنهم يغبطون الشعوب العربية على ثوراتها المدنية التي أطاحت أنظمة وحكاماً كما حدث في كل من تونس ومصر، وأن نظام الحكم الإسرائيلي الذي يعيشون في ظله يحاول أن يظهر بمظهر متنوّر وديموقراطي، غير أنه يدوس الحقوق الاقتصادية - الاجتماعية لمعظم السكان بصورة فظّة للغاية، ويقوم بتقليص الحريات الديموقراطية، وبتشييد أسوار عنصرية في وجه الثقافة الشرقية اليهودية والعربية، وعلى رغم ذلك، فإنه ما زالت أمامهم سكة طويلة لمحاكاة ما يجري في البلدان العربية من خروج جماهيري إلى الساحات العامة والشوارع للمطالبة بسلطة عادلة على الصُعُد المدنية والاقتصادية والثقافية. هذه المجموعة نفسها كانت أصدرت بياناً تأسيسياً في صيف 2009 عقب الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما في جامعة القاهرة، وأعربت فيه عن دعمها للروح الجديدة التي طُرحت في ثنايا الخطاب واصفة إياها بأنها روح تصالحيّة تنطوي على نظرة ثاقبة، وعلى سعي نحو العدل والاحترام للأديان المتعددة والثقافات المتباينة والبشر كافّة. وأكد البيان أن أعضاء هذه المجموعة وُلِدْوا في إسرائيل وهم إسرائيليون تهمّهم دولتهم، ويرغبون في رؤيتها آمنة، عادلة ومزدهرة لمصلحة مواطنيها كلهم. لكن في الوقت ذاته، لا يمكن التاريخ الجديد الذي ولدوا في رحمه أن يمحو تاريخاً يعود إلى مئات وآلاف الأعوام، حيث عاش آباؤهم وأجدادهم في الشّرق الأوسط، في مساحات مترامية الأطراف يحكمها المسلمون والعرب. ولا يقتصر دور الآباء والأمهات على كونهم عاشوا في هذه المناطق منذ الأزل، بل يتعدّى ذلك إلى كونهم قد شاركوا وساهموا كثيراً في نسيج الحياة في هذه الدّول، وواكبوا تطوّره. وفي الفترة المعاصرة أيضاً، فإن ثقافة الدّول الإسلاميّة والشّرق الأوسط والثّقافة العربيّة، تُعْتَبَرُ جزءاً من هويّتهم ليس في مقدورهم اجتثاثه، ولا يرغبون في اقتلاعه أصلاً. وقد شهد تاريخ يهود الدّول الإسلاميّة لحظات مؤلمة، غير أن نظرةً فاحصة، متمحّصة وعادلة، تدلّ إلى أنّ تلك اللحظات الصّعبة لا يمكنها أن تتستّر على تاريخ هائل من التّعاون المشترك. والسّيادة الإسلاميّة على اليهود اتسمت بالتّسامح والكرم، أكثر بكثير ممّا كانت عليه حالهم تحت سيادات غير إسلاميّة، ولا يمكن عقد مقارنة بين مصير اليهود في الدّول الإسلاميّة وبين المصير التراجيديّ الذي ألمَّ بمجتمعات يهوديّة كاملة في مناطق أُخرى، وأساساً في أوروبا. ومع أنه يمكن النظر إلى العقود الأخيرة على أنّها شرخ بين إسرائيل واليهود وبين العالم العربيّ والإسلاميّ، إلا إنهم يفضلون النظر إلى هذا الشّرخ باعتباره مؤلماً وموقّتاً في تاريخ أطول كثيراً، يشمل ماضياً مشتركاً ولا بُدّ من أن يكون له مستقبل مشترك. وحتّى حينما تُلقى نظرة على الخريطة، فإن إسرائيل بالنّسبة إليهم هي جزء عضوي من الشّرق الأوسط، وليس من النّاحية الجغرافيّة فحسب. وقالت المجموعة إن باب الانتساب إلى هذه المبادرة مفتوح أمام جميع الراغبين في الانضمام إليها، وأنها تنوي العمل على تعميمها في العالم العربي، وتهيئة ما يلزم من أجل إخراج دعوة الحوار التي تتضمنها إلى حيّز التنفيذ. وتأتي هذه المبادرة على ركام جدل عميق داخل المجتمع الإسرائيلي في شأن التوتر والصراع الثقافي والاجتماعي بين اليهود الغربيين - الأشكناز وبين اليهود الشرقيين - سفاراديم. وسبق لهذا الجدل أن شكل إرهاصاً لتأسيس حركات شرقية أخرى لعل أبرزها حركة «القوس الديموقراطي الشرقي» التي تأسست عام 1996 من طرف مثقفين يهود ذوي أصول عربية وشرقية ورفعت لواء نشر الخطاب الديموقراطي ومبادئ التعددية الثقافية، وشدّدت أدبياتها على أن إسرائيل اتبعت منذ قيامها سياسة عليا موجهة تهدف إلى إخفاء تاريخ اليهود من أصول شرقية، ولذا فإن تاريخ اليهود من البلدان العربية والإسلامية تم محوه على مدار الأعوام، وانسحبت عملية المحو هذه على الأدب والموسيقى أيضاً، ولم تكن مقتصرة على التاريخ فقط. ووفقاً لما قاله أحد المبادرين إلى هذه الرسالة، فإن الذين تمرسوا في النشاط الشرقي يدركون مبلغ الخوف الذي يسيطر على الأشكناز في كل مرة تطرح فيها قضية تطلع الشرقيين إلى هوية خصوصية. وعادة ثمة مجموعة ردود فعل أشكنازية نموذجية على هذه الخشية، يبرز بينها اثنان: أولاً، الادعاء أن لا جدوى من الاكتراث بالآثام التاريخية، ذلك أن جماعات إثنية أخرى مثل البولنديين والمجريين أو الرومانيين، عانت هي أيضاً من مصاعب الاستيعاب والإذلال والإقصاء؛ ثانياً، أن المشكلة آخذة في الاختفاء، حيث يتم سدّ الفجوات وتُعقد زيجات بين أبناء الطوائف المختلفة ويوجد شرقيون في السياسة وشيئاً فشيئاً تنمو «ثقافة إسرائيلية جامعة». وكل من يتجاسر على الادعاء بعكس ذلك يخلع عليه لقب «مهني طائفي» ويجرى اتهامه بمحاولة جعل المهانة رأسماله الشخصي وبأنه يمس وحدة الشعب (وحدة الشعب والإجماع كانا على الدوام بمثابة أسطورة مجنّدة وجهازاً لإسكات الأقليات). والأنكى من ذلك أنه في كل مرة يدّعي فيها مثقف شرقي وجود عنصرية في إسرائيل يجرى اتهامه بالعنصرية إزاء الأشكناز ويتم تصنيفه كمتطرّف. وبين المبادرين يمكن العثور كذلك على مثقفين يرون أن موقف «اليسار الإسرائيلي» إزاء الصراع مع الفلسطينيين يتسم بالسطحية وبنقاط عمى كثيرة. فهذا اليسار يبقى في رأيهم مناصراً للفلسطينيين طالما أنهم لا يطالبون بحق العودة للاجئين، وطالما هناك تقسيم جغرافي وفصل ديموغرافي، وطالما أن الفلسطينيين متنازلون عن بيوتهم في مدنهم وأحيائهم الأصلية، وطالما تبقى دولة إسرائيل يهودية (وغربية)، وطالما استمر الفلسطينيون الذين يسمون «عرب إسرائيل» في كونهم حاضرين غائبين. ولو كان مثقفو اليسار متحررين حقاً من أساطير جيل الآباء، لكانوا كشفوا أن الصهيونية هي حركة أوروبية معادية للشرق وصلت إليه ولم تر فيه كياناً سياسياً، وإنما مجرّد صحراء بحاجة ماسّة إلى إخصاب وإرواء. كما أنه لو كان الآباء والأبناء الأشكناز يعترفون بالشرق كياناً سياسياً، لكانوا ميزوا أيضاً ذلك القاسم المشترك بين الشرقوية اليهودية والشرقوية الإسلامية والمسيحية، ولكانوا أدركوا في وقت مبكّر أن الخصومة المتعددة الأعوام بين الشرقيين وبين العرب ناجمة في معظمها عن دق إسفين أوروبي بين شرقيين وشرقيين، لكن اليسار الإسرائيلي ما زال مستمراً في انتهاج سياسة العمى والاستعلاء التي انتهجها آباؤه المحافظون.