تحمل نتائج المعركة الانتخابية في بيروت الأولى دلالات سياسية لا يمكن اغفالها أو القفز فوقها. ليس لأنها واحدة من الدوائر التي أمنت لقوى 14 آذار الفوز بأكثرية المقاعد النيابية في البرلمان الجديد فحسب، بل لأنها عكست تبدلاً في المزاج المسيحي باتجاه خفض في نسبة التمثيل التي حققها رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» النيابي ميشال عون في انتخابات العام 2005 والتي شكلت له تفوقاً من دون منازع على خصومه المسيحيين المنتمين الى الموالاة... فالتقويم الأولي لنتائج هذه الدائرة (الأشرفية) يتجاوز فوز لائحة 14 آذار والمستقلين المؤلفة من: ميشال فرعون، نايلة تويني، نديم الجميل، جان أوغاسبيان وسيرج طور سركيسيان وسقوط رفيق درب العماد عون نائب رئيس الحكومة عصام أبو جمرا الى تأكيد أن قوى 14 آذار هي الآن المرجعية المسيحية في دائرة انتخابية يطغى عليها الحضور المسيحي، وان فرعون نجح في أن يحصد أحادية التمثيل الكاثوليكي بعد إخفاق منافسه في الطائفة الوزير الياس سكاف في العودة مجدداً الى البرلمان. وبكلام آخر فإن المرجعية الكاثوليكية كانت محصورة في السابق بين فرعون وسكاف، الى أن حسمت لمصلحة الأول الذي يفترض أن يحل مكان سكاف على طاولة الحوار كممثل للطائفة الكاثوليكية باعتبار أن تسمية المشاركين تخضع لاعتبارات تجمع بين التمثيل والتأثير في الطائفة التي ينتمي اليها في آن معاً. كما ان فوز تويني والجميل أدى الى قطع الطريق على اطروحات «التيار الوطني الحر» كأساس لمعركته الانتخابية، أكانت سياسية أم دعائية ضد لائحة 14 آذار ويأتي على رأسها تحرير الأشرفية من قبضة تيار «المستقبل» برئاسة النائب سعد الحريري واستردادها لتلعب دورها كقلعة حصينة في وجه من يحاول مصادرة تحريرها. ناهيك بأن «التيار الوطني» سعى منذ اللحظة الأولى لتشكيله لائحة في الأشرفية ضد 14 آذار الى اطلاق مجموعة من الشعارات أبرزها أنه يطمح الى تصحيح التمثيل المسيحي فيها، باعتبار ان ممثليها في البرلمان لا يحظون بتأييد مسيحي وأن الرافعة الانتخابية ل «المستقبل» أوصلتهم الى ساحة النجمة وبأصوات سنية على خلفية أن قانون الانتخاب عام 2000 قسم الدوائر في شكل وضع بيروت الأولى تحت رحمة الطغيان الإسلامي. لكن هذه الشعارات ارتدت على أصحابها مع فوز لائحة 14 آذار في الانتخابات على رغم ان خصومها اعتمدوا على عامل انتخابي مؤثر متمثل في دور حزب الطاشناق في ترجيح الكفة لمصلحة لائحة المعارضة. وربما وقع حزب الطاشناق ومعه أركان المعارضة في خطأ في الحساب، ليس لأنه استقدم كتلة أرمنية ناخبة من الخارج وهذا أمر مشروع له، انما لأن قيادته لم تلتفت بانفتاح الى العروض التي حملها اليه حليفه نائب رئيس الحكومة السابق النائب ميشال المر للوصول معه الى تسوية انتخابية تفتح الباب أمام إرساء علاقة جديدة بين الطاشناق والنائب الحريري. إلا ان الطاشناق لم يأخذ بنصيحة المر قبل أن يتحول الى حليف سابق له انطلاقاً من عدم اقتراع الحزب لمصلحته في المتن الشمالي كما وعده وقرر المضي في تحالفه مع العماد عون وقوى المعارضة على رغم ان العروض التي حملها اليه تحفظ للطاشناق 4 مقاعد في البرلمان. وتذرع الطاشناق في حينها بأنه لا يأخذ على عاتقه المغامرة برصيده السياسي وبعلاقاته الدولية والاقليمية من أجل ضمان مقعد نيابي أو أكثر يمكن أن يتسبب في حصول 14 آذار على الغالبية في البرلمان الجديد خلافاً لحسابات المعارضة التي كانت تتوقع فوزها بأكثرية نيابية وان لم تكن ساحقة. وعليه فإن الطاشناق فرّط بفرصة يمكن أن تتيح له الدخول في تسوية لإعادة تصحيح علاقته ب «المستقبل» مع انه لا يتحمل وحده دون الآخرين مسؤولية التدهور الذي أصابها. والتالي أصر على الانخراط في حلف مع عون اعتقاداً منه أن المزاج المسيحي سيبقى على حاله وان تحالفه سيؤمن له فوزاً كاسحاً في الانتخابات. وهكذا ظن الطاشناق ان في وسعه ان يتحول الى رقم صعب في المعادلة السياسية الداخلية وانه بانحيازه لهذا الطرف أو ذاك سيمكّن من ينحاز اليه من حسم المواقع الانتخابية التي يتواجد فيها الأرمن وهذا ما يفسر رفضه السير في وساطة المر ومن ثم عدم التزامه كما يجب بتأييد الأخير في انتخابات المتن الشمالي. وطبيعي أن تأتي نتائج الانتخابات على عكس ما راهن عليه الطاشناق الذي احتفظ بمقعدين نيابيين له في المتن الشمالي وفي بيروت الثانية (الباشورة)، أي انه حافظ على حضوره الانتخابي من دون أن يحقق أي تقدم خلاف ما كان سيحصل عليه لو أبقى على الأبواب مفتوحة لإنجاح وساطة المر الذي يعتبره الطاشناق حليفه التاريخي. إلا ان ميزان القوى في البرلمان الجديد لن يسمح للطاشناق بالإبقاء على خطوطه الدفاعية التي أقامها في الحقبة الأخيرة من عمر المجلس النيابي المنتهية ولايته في 20 حزيران (يونيو) الحالي، وبالتالي فإن تمثيله في الحكومة الجديدة سيواجه اعتراضاً من قوى 14 آذار التي أوصلت الى البرلمان المنتخب حديثاً أربعة نواب هم: سيبوه قالباكيان - الفائز بالتزكية في بيروت الثانية - وشانت مارديروس جنجيان - الفائز في زحلة - واوغابيان وطور سركيسيان والأخيران فازا على لائحة 14 آذار في الأشرفية. فقوى 14 آذار ستتمسك بتمثيل القوى الأرمنية الحليفة لها خصوصاً ان ثلاثة من نوابها فازوا في معارك انتخابية أعطت الغالبية للأكثرية الحالية وبالتالي لن تتساهل تحت أي اعتبار مع تجاهل اشراكهم في الحكومة ومن ثم في مؤتمر الحوار الذي سيعود الى استئناف جلساته وربما قبل تشكيل الحكومة العتيدة انما بانضمام مدعوين جدد اليه قطعاً لن يكون من بينهم الطاشناق وحليفه سكاف الخاسر في الانتخابات. وما ينسحب على الطاشناق يمكن أن يسري على الأرثوذكس سواء الى طاولة الحوار أو في تشكيل الحكومة في ضوء تجديد انتخاب المر نائباً خلافاً لرغبة عون في اسقاطه ليشطب اسم نجله وزير الدفاع الوطني الحالي الياس المر كواحد من العائدين الى الوزارة... اضافة الى ان اسقاط تويني لأبو جمرا سيمنع الأخير العودة الى الحكومة ليس لأن عون على موقفه بفصل النيابة عن الوزارة، وانما لأن رسوبه سيحرمه من أي منصب وزاري. أما القول إن الطاشناق حصد نسبة عالية من أصوات الناخبين الأرمن تدفع باتجاه حفاظه على مواقعه في الحكومة الجديدة وفي الحوار في آن معاً فإن اعتماد مثل هذا المعيار يمكن أن يحشر حلفاءه وخصوصاً عون الذي لا يستطيع أن يدّعي بأنه الأكثر تمثيلاً في المتن إذا ما حذفت من قوته الانتخابية الأصوات العائدة للناخبين الأرمن التي ستقدم خصومهم على أنهم القوة الراجحة مسيحياً في حال «تحييد» الأرمن... في ضوء كل هذه الدلالات السياسية لا بد من الإشارة الى أهمية البعد السياسي لمعركة بيروت الأولى التي بقيت عصية على «التيار الوطني الحر».