قبل أيام قليلة، شهد الخليج العربي انطلاقة محرك بحث عربي تماماً، حمل اسم «لَبلِب». وعبر البريد الإلكتروني، حاورت «الحياة» القيّمين عليه بصدد أشياء كثيرة من ضمنها مسألة الحرف العربي في المحتوى الرقمي. وتشعّب النقاش فطاول مسألة كتابة العربيّة ممزوجة بحروف لاتينيّة، خصوصاً عبر مراسلات الهواتف الذكيّة وصفحات ال «سوشال ميديا». ويسمّي البعض تلك الكتابة «عربيزي»، وهي كلمة تأتي من جمع عربي مع إنكليزي، وربما تشير أيضاً إلى قوّة حضور الإنكليزية تحديداً على الإنترنت. وضمن شرح مستفيض، أوضح مسؤولو «لَبلِب» أنّ ظاهرة «عربيزي» أخذة بالتلاشي، وفقاً لإحصاءات متنوّعة متو فرة لديهم. وأشاروا إلى أن تلك الظاهرة نجمت عن إقبال الجمهور على الكتابة باستعمال الخليوي، قبل أن ينتقل إلى الكتابة المتوسعة على صفحات ال «سوشال ميديا». ولسنوات طويلة، كان يتعذر تقديم لوحة مفاتيح للحروف العربيّة، وهو أمر صحّحته التقنيّات الرقميّة في السنوات الأخيرة، ما جعل كتابة ال «عربيزي» تتضاءل بسرعة. لبنان: «اكتب بالعربي» ذكّر ما أورده مسؤولو «لَبلِب» بمبادرة لبنانيّة اسمها «اكتب بالعربي»، نهضت بها مؤسّسات في المجتمع المدني سعت إلى حض الأجيال الشابة على هجران ال «عربيزي» والكتابة بحروف عربيّة، بلغة سهلة وصحيحة أيضاً. وفي سياق متصل، استضافت كليّة الآداب في جامعة الاسكندريّة أخيراً، مؤتمراً حمل عنوان «اللغة العربيّة وقضايا التواصل في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات» واكبَ مرور خمسة وسبعين عاماً على إنشاء الجامعة نفسها. وكان من أهداف المؤتمر التعرّف إلى واقع اللغة العربيّة والتحديّات التي تواجهها، ومناهضة ظاهرة كتابة العربيّة بحروف لاتينيّة وهي منتشرة حاضراً على مواقع التواصل الاجتماعي. في المؤتمر، تحدثت الدكتورة نجوى صابر، أستاذة البلاغة والنقد في قسم اللغة العربيّة، عن تأثير شبكات التواصل الاجتماعي في اللغة العربيّة. وقالت: «يُعنَى هذا البحث بالحديث عن إحدى الظواهر الخطيرة التي بدأت تهدّد كيان اللغة العربيّة وسلامتها في الآونة الأخيرة... ظاهرة ترافقت مع كون شبكات التواصل الاجتماعي مسرحاً رئيسيّاً للحوارات بين أفراد المجتمع، لا سيما الشباب منهم. تتمثّل تلك الظاهرة في لغة مستحدثة في «غرف الدردشة» التي تسودها أعراف في الكتابة تنحرف عن أعراف الكتابة العربيّة وطرائقها السليمة. والأرجح أن يؤدّي ذلك إلى نتائج كارثيّة محققة. ورأيت أن تلك الأمور تسير في مسار الركاكة، بل الخطأ الصريح عند كتابة العربيّة. وإن دلّ ذلك على شيء، فإنما يدل على ضعف شديد، بل جهل مطبق، في معرفة الكتابة العربيّة السليمة. وينبئ ذلك عن زعزعة، بل ضياع أحد أهم أصول اللغة. إذ لا يمكن بحال أن ننحي صحة الرسم الكتابي عن أسس العربيّة، إضافة إلى استخدام اللهجة العاميّة في شكل خاطئ أيضاً». وحاولت الدكتورة نوير بنت سعيد باجابر، وهي أستاذة مِن جامعة أم القرى في السعودية، أن تجيب عن مجموعة من الأسئلة المتّصلة بالظاهرة عينها. «ما تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على اللغة العربيّة؟ ما مدى حضور اللغة العربيّة فيها؟ ما هي المشكلات التي تواجهها اللغة العربيّة جرّاء استخدامها في شكل غير سليم في تلك المواقع؟ ما هو مستقبل اللغة العربيّة في ظل التطور التكنولوجي الذي نعيشه في مجال الاتصال؟ ما هي الحلول والبدائل والمقترحات التي من شأنها أن تعزز مكانة اللغة العربيّة في مجالات التواصل المختلفة»؟ انطلاقاً من الأسئلة السابقة، قدّمت الباحثة السعوديّة وصفاً لواقع اللغة العربيّة، كما عملت على تقديم بعض الحلول التي رأت أنها تسهم في تنمية العربيّة وتحسين استعمالها في الفضاء الافتراضي، بما يبقيها أيضاً في مستوى منجزاتها العلميّة والثقافيّة والحضاريّة. اللسان العامي ودوره موضوع الجلسة الثالثة العلاقة بين اللغة العربيّة الفصحى واللهجات العامية الشائعة. وتحدث فيها مجموعة من الباحثين بينهم الدكتور طه رضوان طه الذي تحدّث عن ألفاظ السعادة في العامية القاهرية. وخُصّصت الجلسة الرابعة لنقاش اللغة العربيّة والإعلام، وتحدثّت فيها الدكتورة أحلام حسن عباس عن آفاق النقد عبر الإنترنت. وقالت: «استطاعت الثورة التكنولوجيّة الهائلة أن تتفاعل مع شؤون الحياة كافة، ورسمت مسارات جديدة قلبت ما كنا نتصوره قوانين لا يمكن تجاوزها. وحتى حدود الزمان والمكان وما ينتج منها، أصبحت من دون قيمة. وتأثر الأدب تأثراً قوياً بتلك الثورة». ورأت أن ذلك التأثّر يأتي من كون الأدب على مر العصور تصويراً للواقع ومحاكاة له. وتمحورت الجلسة الختاميّة حول اللغة العربيّة وقضايا التعليم والتعلّم. وتحدثت فيها مجموعة من الباحثين منهم الدكتور مصطفى شعبان المصري الذي تناول مبدأ القصد في العربيّة. وتحدّث الدكتور إبراهيم محمد عبد الرحمن عن واقع الدرس البلاغي ومستقبله. وانتهى المؤتمر إلى مجموعة من التوصيات شملت انعقاد المؤتمر سنويّاً لمناقشة القضايا المتصلة باللغة العربيّة ومستجداتها، والعمل على استصدار قرار من الجامعة كي يكون مقرّر اللغة العربيّة أساسياً في كليات الجامعة كافة. وطلب العمل على أن تكون إجادة اللغة العربيّة شرطاً للتعيين في الوظائف العامة والحكوميّة، كما هي الحال بالنسبة إلى اللغة الإنكليزيّة التي تعتبر إجادتها شرطاً في وظائف ومواقع كثيرة. وحضّ على صنع تطبيقات رقميّة تساعد على استخدام اللغة العربيّة في صورة صحيحة، مع توعية الشباب من مستخدمي مواقع ك «فايسبوك» و «تويتر» وغيرهما، بخطر الغزو الثّقافي الذي تتعرض له اللغة العربيّة. ولفت إلى خطر إهمال العربيّة في كتابات الجمهور على مواقع التواصل، وحضهم على الاعتزاز بها وتشجيعهم على التّعبير بها، بداية من كتابة أسمائهم على صفحاتهم. وكذلك دعا إلى تشجيع المبادرات التي تُعنى بالتّعريف بكيفية استخدام اللغة العربيّة استخداماً سليماً، وإنشاء موقع إلكتروني جامعي يتخصص في تصحيح الأخطاء اللغوية الشائعة. عن اهتمام غربي بلسان الضاد بيروت - «الحياة» بفعل أمور كثيرة، يذكّر مؤتمر «اللغة العربيّة وقضايا التواصل...» الذي عقدته جامعة الإسكندرية أخيراً، بتزايد اهتمام الغرب بما يكتبه العرب على الإنترنت، خصوصاً منذ حوادث 11 أيلول(سبتمبر)2001. ومنذ ذلك الوقت، شرع الغرب في توظيف مجموعة من المستشرقين، خصوصاً في وزارات الداخلية ومراكز البحوث. وبرزت ظاهرة التجسّس المعلوماتي، التي عبّرت عنها بوضوح كشوفات خبيير المعلوماتيّة الأميركي إدوارد سنودن. اذا أردنا أن نأخذ مثالاً على ما يراه الغرب عن المحتوى المعلوماتي العربي، يمكن الرجوع إلى كتاب «العرب يتحدثون إلى العرب» الذي يحتوي مقالات عرضت في مؤتمر فرنسي عن التدوين الإلكتروني. وورد في ذلك الكتاب أن الجيل العربي الشاب «بات يخترع لغة جديدة تكتب بالأحرف اللاتينيّة... إذ تطايرت العربيّة الكلاسيكيّة لتترك المكان إلى كلمات أو مصطلحات تعبّر عن حقيقة الحياة العاديّة، ما أدّى إلى تخطّي الحواجز الاجتماعيّة والجغرافيّة لخلق حوارات لا سابق لها، خصوصاً في ما يخصّ المسائل التي كانت حكراً على فئة خاصة من المجتمع». كما طرح الكتاب مجموعة من الأسئلة عن تأثير المعلومات والتواصل في المجتمع العربي، وطُرُق ظهور تلك الحقيقة. وطرح أيضاً سؤالاً عن مساهمة العولمة التقنيّة لوسائط المعلومات، في تغذية الفجوة بين الشمال (الغرب) وبقية الدول، إضافة إلى الفجوة داخل الشعوب العربيّة نفسها. هل تؤدي تلك الفورة المعلوماتيّة إلى نهضة عربيّة عبر تحريك الشعب في المنطقة حول شعارات سياسيّة متشابهة؟ هل تترك الفورة المعلوماتيّة المكان لشعارات أخرى تدين عجز الضمير العربي؟ هل تؤدي ثورة التقنيّات المعلوماتيّة إلى نشر ثقافة دينيّة معتدلة، أم أنّها ستصبح أكثر تطرفاً في الفتاوى المختلفة؟ أميركا متنبّهة أيضاً أضاف الكتاب أنّ مراقبة الحراك العربي من قِبَل البحّاثة في المجالات كلّها (خصوصاً الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة) تجري غالباً في الغرب، خصوصاً الولايات المتّحدة. وخلص الكتاب للقول إن البحّاثة العرب ما زالوا يخافون من الإنترنت، بفعل خوفهم من امتداد الخطاب الوحدوي المتطرّف على ال «ويب». وكخلاصة، يعتمد الغرب على تحليل الإنترنت عبر المُدوّنات الإلكترونيّة، خصوصاً السياسية منها، مُركّزاً على ما تحتويه من أخبار مناهضة للنظام في ذلك البلد أو غيره. وتنصب التحليلات الغربيّة على أنّ الإنترنت في العالم العربي تعمل ضدّ الأنظمة فيه. وفي المقابل، لم يكن للمُدوّنات الإلكترونيّة العربيّة، على رغم كثرتها، تأثيراً فعلياً في نشر الثقافة بمقدار ما كانت تُرى من قبل الغرب على أنّها أصوات محتجّة تعبّر عن المعارضة للنظم السائدة. في المقابل، عندما يهتم العرب بالإنترنت الفرنسي أو الأميركي مثلاً، فإنهم لا يحصرون همهم في ترصد أخبار رؤسائهم (ربما شكّل الرئيس دونالد ترامب استثناءً)، بل يذهب اهتمامهم أيضاً إلى أمور أخرى اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة وغيرها. وتملك تلك المفارقة دلالة معرفيّة تستدعي التفكير فيها. ولا بدّ من القول إن الأزمة الثقافيّة مرتبطة تتمدّد على المساحة الفاصلة بين ثقافة التكنولوجيا من جهة وتكنولوجيا الثقافة من جهة اخرى. وتسمي اللغة الأنكليزية ثقافة التكنولوجيا بمصطلح «محو الأميّة التقنية» في إشارة إلى القدرة المعرفيّة في استخدام التقنيات في المجالات الحياتيّة كلّها.