وفق الإحصاءات المعلنة رسمياً، سقط في الفترة من أول آب (أغسطس) وحتى أول شباط (فبراير) الماضي 3248 قتيلاً في مواجهات مع عناصر جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. ويتضمن هذا العدد القتلى الذين سقطوا خلال فض اعتصامي «رابعة والنهضة»، كما يتضمن 226 شرطياً، و85 من رجال الجيش. ولا يزال نزيف الدم مستمراً، وإن لم يُعلن رسمياً عن عدد ضحايا الشهور الأربعة الأخيرة، ولا عن حجم الخسائر الاقتصادية المترتبة على تلك المواجهات الدموية، وإن قدرها خبراء اقتصاديون بحوالى بليوني جنيه يومياً (الدولار يساوي سبعة جنيهات) في مختلف القطاعات الاقتصادية، وعلى رأسها السياحة والصناعة. من هنا، تأتي أهمية التساؤل حول الكيفية التي سيتعامل بها الرئيس المنتخب مع هذا الملف الشديد التعقيد: هل سيواصل التعاطي معه أمنياً، أم إن هناك مجالاً للتفاوض ومن ثم التصالح؟ في رؤية النائب السابق جمال أسعد، يبدو الملف أكثر تعقيداً من تحديد خيار بعينه ليكون طريقاً إلى الحل، إذ يقول: «أظن أن تحديد الطريقة المثلى للتعامل مع الملف «الإخواني» هي بيد النظام المقبل لأنه هو الطرف الأقوى الآن، فخريطة الطريق تسير كما خُطط لها تماماً، وبمجرد أن تنتهي انتخابات الرئاسة ستبدأ انتخابات المجلس النيابي لتكتمل أركان النظام، وهي الخطوات التي فشلت العمليات الإرهابية في تأجيلها، ولم يعد أمام جماعة «الإخوان» إلا الابتعاد عن العمل السياسي والتفرغ للنشاط الدعوي، أو أن يؤسسوا حزباً يمارس السياسة وفق القواعد التي يحددها الدستور». ويضيف أسعد أن على الرئيس المنتخب الاختيار بين طريقين لا ثالث لهما: إما مصالحة يحدد هو آلياتها وشروطها كمحاولة للم الشمل والانتهاء سريعاً من هذا الملف، أو إنهاء التنظيم تماماً عبر إجراءات أمنية وقانونية، وإن كنتُ أشك في أن «الإخوان» سيتركون أي فرصة يمكن أن تتاح لهم للعودة، فالبراغماتية والميكيافيلية اللتان تحكمان عقل التنظيم لن تتوانيا عن تقديم التنازلات الممكنة للبقاء في المشهد السياسي المصري». إعلان بروكسيل المرفوض ميكيافيلية «الإخوان» التي تحدث عنها جمال أسعد كانت هي التفسير الوحيد الذي قدمه البعض تعليقاً على ما تم الإعلان عنه أخيراً من جانب جماعة دعم الشرعية الموالية لجماعة «الإخوان»، وهي الوثيقة التي حوت عشرة مبادئ تعبر في معظمها عن رغبة «الإخوان» في الانخراط مجدداً في الحياة السياسية المصرية. فمثلاً يتحدث بندها الأول عن التعددية والتشاركية ووضع آليات للاتفاق بين التيارات السياسية، بينما خلا الإعلان تماماً من الحديث عن عودة الرئيس المعزول محمد مرسي، وضمَّ كثيراً من محاولات مغازلة التيارات السياسية الأخرى، وعلى رأسها التيار الثوري. وعلى رغم التنازلات التي اعتبرها المحللون مجرد بداية في سلسلة من التنازلات سيُعلن عنها تباعاً، إلا أن الوثيقة واجهت تجاهلاً ملحوظاً من الحكومة. ويرى الكاتب السياسي وأحد كوادر تيار اليسار المصري، نبيل زكي أن «الإخوان» تأخروا كثيراً في تلك الخطوة، ومن ثم لم يعد هناك أي طريق للتعامل معهم سوى الطريق الأمني والقانوني، فاعتبارهم كياناً سياسياً «يضفي شرعية على جماعة إرهابية». ويضيف: «هذا ملف الإرهاب وليس ملف «الإخوان»، ولا بد من أن تكون له الأولوية في برنامج الرئيس المنتخب، فاستقرار الدولة لن يكون إلا باستئصال هذه الجماعة، بالتالي فإن الحديث عن أي حلول سياسية الآن يعطل المسار السياسي الذي ارتضاه الشعب، من هنا بات على الدولة رفع كفاءة جهاز الشرطة وأجهزة جمع المعلومات، وتجفيف منابع الإرهاب، بخاصة في سيناء والحدود الشرقية، ولا يفترض أن تكون هناك عودة إلى الوراء سياسياً أو مجتمعياً، وإلا سنعود إلى الأوضاع نفسها التي عانينا منها طوال العامين الماضيين، بل ربما تصل الأمور إلى سقوط الدولة نفسها. ويذكر أن «وثيقة بروكسيل»، سبقتها مبادرة طرحها في شباط (فبراير) الماضي أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة حسن نافعة تحت عنوان «الأزمة والمخرَج»، وتضمنت الدعوة إلى تشكيل «لجنة حكماء» لتقترح تصورات «لحل تشابك هذا الملف الشديد التعقيد»، وكذلك تشكيل لجنة تقصي حقائق في شأن أعمال العنف التي شهدتها البلاد منذ 25 يناير 2011، وأيضاً البحث عن آليات «تضمن مشاركة الجميع في الانتخابات البرلمانية. هذه المقترحات جرى رفضها، بل اعتبرها البعض أمراً غير مقبول في ظل هجمات الإرهاب المتصاعدة من جماعة «الإخوان»، ولكنها - كما يقول حسن نافعة - تظل محاولة لإنقاذ المستقبل، «فنحن لسنا على استعداد أن يتحول «الإخوان» إلى طالبان أخرى، وأن يكون الإقصاء والعنف هما التربة الخصبة التي تنمو فيها حركات أكثر راديكالية ودموية». ويضيف نافعة: «إذا كنا نؤسس لنظام سياسي مستقر، فلا بد من توافق مختلف القوى السياسية، ومنها «الإخوان» الذين أظن أنهم استوعبوا الدرس جيداً». ويرى نافعة أن محاولات استقطاب القوى الثورية من جانب «الإخوان»، عبر خطاب سياسي توافقي يلعب بالمشاعر الوطنية وأهداف الثورة وأحلامها، لن تجدي نفعاً، ففي السنة التي حكم فيها «الإخوان» كانوا بعيدين تماماً عن مبادئ تلك الثورة، بل قدموا فيها نموذجاً جديداً للحزب الوطني الذي أسقطته الثورة وزادوا عليه الغطاء الديني. والحل الآن، وفق حسن نافعة يتطلب تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية «التي هي الأساس الذي يقوم عليه الاستقرار في أي نظام، بخاصة بعد الثورات أو الأحداث الكبرى، وهذه العدالة لها آليات محددة ومعروفة، وأهمها التحقيق في ما حدث في شكل مستقل وحيادي، وإقرار القانون على الجميع، ومن أجرم يجب عقابه ومن له حق يأخذه، وأظن أن أي رئيس مقبل لن يستطيع التملص من المصالحة باعتبارها من آليات تحقيق الاستقرار، وإلا فلن نناله أبداً». وفي الوقت الذي طرح نافعة مبادرته، كانت العمليات الإرهابية التي يمارسها المنتمون إلى «الإخوان»، أو أولئك الذين يدعون التعاطف معهم، وينتمون إلى جماعات متطرفة، على رأسها جماعة أنصار بيت المقدس، في أوج نشاطها. ففي 16 شباط الماضي أعلنت تلك الجماعة مسؤوليتها عن تفجير انتحاري في منتجع طابا، أسفر عن مقتل ثلاثة سياح أجانب وسائق مصري وإصابة 29 آخرين، وهو الحادث الذي تزامن مع تفجيرات أخرى في قلب القاهرة استهدفت مكامن للشرطة، ما دفع تهاني الجبالي، عضو المحكمة الدستورية العليا السابقة إلى وضع مبادرة نافعة ضمن «محاولات تعد من قبيل الخيانة الوطنية لإرادة الشعب المصرى ولثورته المجيدة التي طالبت بسقوط هذا التنظيم الفاشي المتآمر على مصر». ومع ذلك طرح طارق الملط، عضو حزب «الوسط» السابق، بعد انسحابه من «تحالف دعم الشرعية» مبادرة أطلق عليها «خمسة مقابل خمسة»، لم تلق أيضاً أي قبول رسمي، وكانت سبباً في خلافات سياسية بينه وبين قيادات ذلك الحزب. وعلى رغم ذلك ما زال الملط على موقفه من ضرورة الحل السياسي لهذا الملف الشائك، ويقول: «مبادرتي تقدم تنازلات مشتركة من الطرفين سواء «الإخوان»، أو الدولة وهو أمر لا أراه غريباً لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية، خصوصاً أنني أعرف أن قيادات «الإخوان» باتت الآن منعزلة إلى حد كبير عن الأعضاء العاديين الذين يبدون استعدادهم للاندماج في الحياة السياسية، بخاصة أنهم لم يتم اتهامهم بأية تهم إرهابية أو مخالفة للقانون، ولو حدث الاتفاق وتوقف الإرهاب، وقتها نستطيع الربط بين الإرهاب و «الإخوان»، وإن لم يحدث، فعلى الدولة التعامل مع من يمارس الإرهاب بالقانون، ومن يلتزم ويرغب في ممارسة سياسية حقيقية فله الحق في أن يندمج في العملية السياسية». الإرهاب الأسود في نهاية التسعينات، أغلقت الدولة ملف «الإرهاب الأسود»، عبر ما عُرف بعمليات المراجعات الفكرية التي قادها وقتها أحد رموز الجماعة الإسلامية، ناجح إبراهيم، فهل السيناريو التفاوضي لا يزال مطروحاً؟ يقول ناجح: «أظن أن الظرف السياسي والتنظيمي بات مختلفاً ولو وصفنا الموقف الآن سنجد الآتي: تنظيماً فقد تعاطف الشارع معه، بعد تحالفه مع القوى التكفيرية المسلحة، وقياداته إما هاربة أو في السجون، كما أن ما حدث عند فض اعتصامي رابعة والنهضة، خلق رغبة في الانتقام، بخاصة لدى الشباب. لا أظن أن لدى قيادات «الإخوان» القدرة على السيطرة على الجماعات التكفيرية المسلحة، سواء داخل التنظيم أو خارجه، كما أن الشرطة ومؤسسة الجيش سقط لهما مئات القتلى، ولا أعتقد أنهما سيتغاضيان عن ذلك. على المستوى المجتمعي: دخل «الإخوان» في صراع مباشر مع فئات بعينها، كالأقباط بعد حرق الكنائس، ومع الشارع بعد أن قتلوا مواطنين لا علاقة لهم بالصراع». إذاً، إذا كان سيناريو التسعينات لم يعد صالحاً، فكيف يمكن حل الموقف؟ يقول ناجح إبراهيم: «إذا كان «الإخوان» لديهم تعقيداتهم الخاصة في هذا الملف فالنظام السياسي أيضاً له تعقيداته ومصالحه وأزماته في التعاطي مع هذا الملف، ومنها عملية الرفض التام لأي حل غير أمني من مؤسسات فقدت العشرات من أبنائها في عمليات إرهابية استهدفتهم مباشرة، كالشرطة والجيش، وأحزاب وجدت نفسها تلعب بمفردها في الساحة السياسية من دون منافسة «إخوانية». أيضاً النظام في مأزق أمني واقتصادي يستلزم إيجاد آليات حل لا يؤدي إلى مزيد من الأضرار الاقتصادية، وأظن أن الرئيس المنتخب سيكون مضطراً لتخفيف حدة الاحتقان بين شباب «الإخوان»، بأن يطلق المعتقلين ممن لم يدانوا في أعمال إرهابية، ثم يبدأ دمجاً متدرجاً عبر السماح لهم خلال عامين أو ثلاثة بالمشاركة السياسية المحدودة». على الجانب الآخر من فكرة المصالحة مع «الإخوان»، يقف الخبير الأمني اللواء حسام سويلم، مؤكداً رفضه التام لأي تلويح بالمصالحة، أو حتى حديث عنها أو حتى عن قبول ولو جزئي لوجودهم، بل ويضع خريطة لما يطلق عليه نصاً «تطهير مصر من الإخوان». ويرى سويلم أن الحديث عن مصالحة أو عن قبول لوجود «الإخوان» تحت أي مسمى، يعني أن الدولة مستعدة للتخلي تماماً عن القانون وقواعده، ومن ثم إطلاق المجرمين من السجون، لمجرد الرغبة في ألا يتحولوا إلى أعداء للمجتمع. ولاحظ أن «وثيقة بروكسيل» لم تتكلم عن دماء المصريين التي أهدروها، ولا عن التخريب الذي ألحقوه بمصر. وشدد على أن من يرحبون بتلك المبادرة ويتحدثون عن حقوق سياسية أو عدم إقصاء أو أي كلام من أدعياء حقوق الإنسان لم يعد مقبولاً في أي شكل من الأشكال. المطلوب الآن محاسبتهم على الدماء التي أسيلت وتُسال كل يوم من الجيش والشرطة والمواطنين وليس الإدماج أو المصالحة. ويعتقد سويلم أن الرئيس المنتخب لن يلجأ إلى خيار المصالحة مع «الإخوان»، ولن يقبل بمجرد وجودهم في المشهد السياسي أصلاً، لأنه لو فعل غير ذلك فسيخسر شعبيته على الفور. إذاً ما الحل؟ الحل عند اللواء سويلم هو تعامل أمني لن يستغرق أكثر من عام يتم خلاله اعتقال أعضاء تنظيم «الإخوان» ومحاكمتهم، ومن تثبت براءته يطلق سراحه مع حرمانه من أي ممارسة سياسية. وعلى عكس ناجح إبراهيم، يذهب اللواء سويلم إلى أن ما أجبر جماعات العنف في التسعينات على الخضوع للنظام، ليس المراجعات، بل أجهزة الأمن وإجراءاتها الصارمة ضد قيادات تلك الجماعات. ومع ذلك، لا يغفل سويلم أهمية التعامل الفكري مع تلك المعضلة في موازاة التعامل الأمني، ويقول: «هؤلاء يعتمدون على تربية شبابهم وكوادرهم من خلال مدارسهم ومعاهدهم التعليمية التي تصنع هذا الكائن الإرهابي، فمن يرفعون السلاح الآن ليقتلونا به، كانوا قبل عشر سنوات أطفالاً يعيشون بيننا ولم تنتبه لهم الدولة، ولذلك لا بد من إغلاق مدارس «الإخوان» وملاحقة أصحابها، وكذلك معاهدهم وجمعياتهم الخدمية وإبعادهم عن المناصب القيادية، أو التي لها احتكاك مباشر بالصبية والشباب سواء داخل المدارس أو في الجامعات، فكان هؤلاء هم من يدخلون الأسلحة لشباب الجامعات في سياراتهم الخاصة ويدافعون عن حقهم في التعبير السياسي والتظاهر ضد النظام، ولذلك سعى «الإخوان» منذ اليوم الأول إلى تحقيق عملية «الأخونة» لضمان سيطرتهم على المؤسسات التعليمية والرسمية في البلد».