في عامها العاشر الذي تُختتم فعالياته غداً بنجاح لافت يُؤكده التزاحم الشديد أمام قاعات العرض وحالة النقاش الخصبة ونفاد التذاكر في الكثير من العروض السينمائية، تخرج بانوراما الفيلم الأوروبي إلى عشر محافظات مختلفة في أنحاء أرض الكنانة لتوسّع قاعدتها وتضم إليها جماهير تنتمي إلى فئات عمرية وأجيال وطبقات اجتماعية مغايرة في تجربة لم يخضها أي من المهرجانات السينمائية التي تنظمها الدولة أو وزارة الثقافة. فلقد خطت شركة أفلام مصر العالمية خطوة جديدة هذا العام باتباعها سياسة تستند إلى اللامركزية في تقديم عروض تظاهرة بانوراما الفيلم الأوروبي لتؤكد ليس فقط على كونها أصبحت متنفساً حيوياً للسينما البديلة المنتقاة بعناية، بل صارت أيضاً إحدى علامات المشهد الثقافي المصري في القاهرة منذ مولدها عام 2004 بتنظيم وتمويل شركة أفلام مصر العالمية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي وعدد آخر من السفارات والجهات الثقافية الأوربية في مصر. هذه خطوة كان المجتمع المصري بحاجة إليها ربما بالقدر ذاته لحاجة الفيلم الأوروبي إلى تلك الخطوة التي تمنحه فرصة– حتى ولو أولية- أن يبني له قاعدة وربما سوقاً جديداً في العالم العربي، خصوصاً في ظل هيمنة أفلام هوليوود واستحواذها على شباك التذاكر في مصر. التقطت ماريان خوري عام 2004 الخيط والفكرة الجنينية حين كانت معارك زيادة عدد نسخ الفيلم الأجنبي– وأساساً الأميركي– لا تزال قائمة قاتلة لكل فرصة حقيقية أمام أي سينما بديلة ومهددة بضرب الصناعة المحلية في مقتل. أقيمت البرامج التلفزيونية واحتج المهتمون بالأمر السينمائي، لكن لا شيء فعلياً تم اتخاذه لمواجهة فعالة، فسطوة السينما الأميركية ليست فقط بوفرة الإنتاج وبالميزانيات الضخمة مقارنة بالكلفة الإنتاجية للأفلام الأوروبية حيث تكاد تصل الأخيرة إلى ربع ميزانية الأولى أو أقل في كثير من الأحيان، لكن هذه الكلفة الإنتاجية تُؤثر بدورها في الدعاية الفيلمية وقدرتها على اختراق أسواق العالم، والهيمنة على عقول مشاهدين بالملايين، وكلما كسبت أرضاً جديدة تضاعفت الهيمنة والمكاسب التي تحققها. ربما البحث عن المغاير وعشق المغامرة والشغف السينمائي الذي غلف روحها وذكائها الفطري كان وراء انتباه ماريان خوري إلى ذلك الدور الذي تلعبه فرنسا في مقاومة السينما الهوليوودية، والسعي إلى تحقيق قدر من التوازن الثقافي، فمثلما تتصارع الدول العظمي على بسط النفوذ السياسي والاقتصادي في مختلف مناطق العالم، هناك أيضاً محاولات لفرض الهيمنة الثقافية من بين وسائل متعددة من بينها السينما، وهو ما يُفسر قيامها بتقديم تمويل أو المشاركة في إنتاج أفلام من العالم الثالث وأفريقيا ودول الكاريبي وجنوب الصحراء من أجل إتاحة الفرصة أمام ثقافات سينمائية أخرى، وهو أمر حيوي في مواجهة الهيمنة الأميركية، وما يؤكد أهمية تلك الخطوة المحاولات الأميركية لسنين طويلة لتغيير التشريعات الفرنسية الخاصة بالدعم السينمائي وإصرارها وإلحاحها على أن ترفع الحكومة الدعم عن الفنون وفي مقدمتها السينما. دور البانوراما من هنا، تأتي تجربة بانوراما الفيلم الأوروبي متسقة تماماً مع محاولات الدول الأوروبية إتاحة الفرصة لأفلامها بالتواجد في مجتمعات وثقافات أخرى كانت تخضع للهيمنة الهوليوودية. إنه جزء من إدراك أهمية التواجد والتوازن الثقافي، وهو جزء ضروري وحيوي ومكمل للدور الكبير الذي تلعبه فرنسا منذ ثمانينات القرن الماضي. فالبانوراما تعتبر أيضاً أحد أشكل هذه المقاومة التي تصدت لها فرنسا على مدار سنوات في مواجهة الأفلام الأميركية واستوديوهات هولييود التي سعت لاستقطاب المخرجين الأوروبيين البارزين ونجوم ونجمات شباك التذاكر في أوطانهم. لكل ما سبق تعتبر إتاحة الفرصة لعروض السينما الأوروبية في مصر ضرورة ملحة وقيمة فنية وثقافية تلعب دورها في تشكيل الوعي وغرس قيم مهمة والتأكيد على القدرة على الإبداع والصمود في وجه القهر والجمود بكل أطيافه وأشكاله، فتلك السينما بمدارسها المتنوعة- ومنذ مولدها على أيدي الأخويين لوميير وعلى مدار تاريخها وحتى يومنا هذا- هي التي كرست مكانة الفيلم على المستوى الفكري والجمالي بالتوازي مع النظريات الفيلمية، وقدرتها على توظيف كافة العناصر لخدمة البنى الرمزية للفيلم سواء على مستوى اللون والشكل والبناء المكاني والزماني والحركة بتنوعاتها بما ذلك فنون الأداء لدى الممثل، وظلت هذه السينما المستندة إلى التراكم الجمالي في مواجهة سينما– الأميركية- تنطوي أساساً على التراكم التقني والتكنولوجي الذي وظفته لجني الأرباح الطائلة من وراء السينما وقدرتها الخارقة على نشر الإنتاج في شكل واسع واستقطاب جمهور كبير وحاشد في أرجاء المعمورة، مع ذلك لا يزال هناك جمهور يتوق إلى سينما تحمل في ثناياها ميراثاً من الإبداع ساهم في تشكيله كثيرون مثل فيليني، تروفو، رينوار، غودار، أنطونيوني، فيسكونتي وآخرين. مقاومة أخرى لا شك أن المقاومة هي أحد أهم نتائج تلك العروض السينمائية التي تقدمها بانوراما الفيلم الأوروبي والتي تنتمي إلى سينما الأرت هاوس في المقام الأول، المقاومة الناعمة الدافئة المتسللة إلى اللاوعي والعقل الباطن والتي قد لا يدرك نتائجها الآجلة غير القليلين لأنها تتسرب بهدوء في حنايا العقل والإحساس، فمثلا لو تأملنا موضوعات تلك الدورة سنجد بينها أفلاماً عن مقاومة الرأسمالية، وأخرى عن نظرة جديدة مغايرة للفن، وإعادة النظر إلى أشكاله والتشجيع على تطوير تلك النظرة دون خوف من الهجوم والرجم من المنظومة السائدة كما في «جوزيف بويز» الفنان الألماني المتمرد صاحب الروح الوثابة، و»مربع»، و»حب فينست»، و»مانيفستو»، وغيرها من الأعمال التي تدعو إلى التسامح ضمنياً من خلال مناقشة الآثار النفسية والاجتماعية المدمرة للعنف كما في «حياة عنيفة» أو كما في «قتل غزال مقدس» أو تلك الأفلام شديدة الرومانتيكية التي تجعل المشاهد يتصالح مع الأشياء من حوله بفعل الحب كما في المجري «عن الجسد والروح». وتلعب هذه التظاهرة الأوروبية أيضاً دوراً بالغ الأهمية على المستوى النفسي فعندما تقوم بدعوة شباب يتم تهميشه وإزاحته عن المشهد السينمائي المصري- بكل قوة رغم موهبته الواضحة لا لشيء سوى العقاب أو ربما الخوف من أفكاره- ثم يأتي العقل المدبر وراء هذه البانوراما الأوروبية لتستضيفه وتمنحه فرصة وحرية اختيار فيلم من السينما العالمية كان له تأثير عليه وعلى أفكاره ومشواره وذلك لعرضه على الجمهور وإتاحة فرصة مناقشة هذا العمل مع الجمهور الذي حُرم من مشاهدة أعماله كما حدث مع المخرج الشاب تامر السعيد صاحب القصيدة السينمائية «آخر أيام المدينة» الذي طاف بلدان العالم وحُرم من العرض على أبناء بلده في أرض الكنانة لأسباب رقابية متعسفة. هنا، هل يمكن تجاهل ذلك الدور المهم والناعم الذي تلعبه تظاهرة بانوراما الفيلم الأوروبي؟ فأن تمنح وقتاً ولقاءً بين شاب تعرّض للقهر مع أبناء وطنه وتفتح النقاش حول الفن، فأنت تدعمه. صحيح أنه قد يكون ذلك القهر الذي تعرض له السعيد ضاغطاً على ضلوع الصدر كحجر ثقيل على القلب، لكن مَنْ شاهد الفيلم الوثائقي البديع عن الفنان التشكيلي الألماني جوزيف بويز قد يخطر في باله أمراً مغايراً عن خلود المبدع وفناء الرقيب، فبعد المعارك الكثيرة التي دخلها هذا الفنان، والحرب التي خاضها وشارك فيها ضده زملاء من الوسط الفني التشكيلي وزملاء بالوسط الأكاديمي. لكن هل يتذكر الآن أحداً من هؤلاء؟ ماذا تبقى من هذه الجوقة التي وقفت متضامنة ضد جوزيف بويز؟ لقد عاش بويز بعد وفاته 30 عاماً ولا تزال أعماله وأفكاره قيد المناقشة، ولا تزال الأفلام تُصنع من حوله، ولا تزال أفكاره تُثير الحماس والأمل والوعي في نفوس من يقرأون عنه ويشاهدون أعماله ويتأملون مناقشاته للأمور الفنية في المجتمع. عاش بويز وسيعيش طويلاً في حين ذهب خصومه ومنظومة الأكاديمية الجامدة إلى سراديب النسيان. في الختام، لا يفوتنا تقديم التحية للعقل المدبر وراء تلك التظاهرة، ذلك العقل الذي تقوده روح متمردة عاشقة للفن لم تتخل عن المغامرة التي ورثتها في جيناتها عن خالها– يوسف شاهين- واكتسبت مزيداً منها عبر احتكاكها المهني به والعمل معه عبر سنوات طويلة ومنذ «وداعاً بونابرت». تحية لماريان خوري المنتجة السينمائية التي خاضت تجربة الإخراج الوثائقي غير ذات مرة، والتي– أخيراً- بمساعدة ابنها يوسف الشاذلي الذي يحمل على ما يبدو الروح المثابرة ذاتها، تسعى إلى الحفاظ على مستوى البانوراما وتطويرها.