لم تكد أحداث البحرين وسورية تهدأ نسبياً، حتى انزلق اليمن الى حرب التصفيات الجسدية عقب محاولة اغتيال اللواء المنشق محسن صالح الأحمر. والمؤكد أن استقالة هذا القائد العسكري فاجأت الرئيس علي عبدالله صالح الذي اختاره لقمع الاضطرابات في المنطقة الشمالية الغربية. كما اختاره لقيادة الفرقة الأولى المدرعة بسبب ولائه وإخلاصه لمناهضة المتمردين الحوثيين الذين حملوا لواء الثورة ضد رئيس الجمهورية و «حزب المؤتمر الشعبي العام» الحاكم. ويقول مصدر أمني في وزارة الداخلية، إن استقالة اللواء علي محسن الأحمر أحدثت صدمة كبرى في نفس الرئيس علي صالح لأكثر من سبب: أولاً – لأنه منافس جدي على مركز الرئاسة، الأمر الذي يحل إشكالية الفراغ الذي يوظفه رئيس الجمهورية للبقاء في الحكم حتى نهاية ولايته عام 2013. ثانياً – جاءت استقالة علي الأحمر لتشجع عدداً من الضباط على إعلان استقالاتهم والانضمام الى المطالبين بإسقاط الرئيس. ثالثاً – استناداً الى خلفية اللواء علي محسن صالح الأحمر الذي حارب الحوثيين عسكرياً وعقائدياً، فان انتقاله الى موقع المعارضة مع كبار ضباط الوحدات، يضعف سلطة الرئيس المعتمد على الجيش أولاً وعلى رجال قبيلته «حاشد»، ثانياً. في لقائه مع «الحياة» (27 آذار/مارس 2010) – قال الرئيس علي عبدالله صالح، إن الجولة السادسة من الحرب مع الحوثيين ستكون نهاية الجولات والحروب. وكان بهذا الكلام يلمح الى المتاعب التي واجهها منذ انفجرت الحرب الأولى في خريف 2004. يومها كان ميزان القوى يميل لمصلحة الجيش، خصوصاً أن الأسلحة التي يملكها الحوثيون لم تكن من النوع المتطور القادر على منازلة أسلحة الجيش النظامي. وفي تلك الحرب، نجحت قوات السلطة في الوصول الى معقل القائد حسين الحوثي الذي قتل في كمين نصب له وهو في طريقه للاجتماع بلجنة الوساطة. والثابت أن الدولة لم تكتف بقتل حسين الحوثي، بل طاردت أنصاره حتى منطقة صعدة بهدف تحجيم المذهب الزيدي ومقاومة تأثيره كحركة سياسية عقائدية. والدليل أنها أحكمت سيطرتها على مساجد الزيديين واختارت لهم أئمة من جنسيات يمنية وعربية. ثم قامت باعتقال العشرات من أتباعهم الذين قدموا الى صنعاء من الجبال. في الحرب الثانية التي انفجرت عند منتصف ربيع عام 2005، بدأ ميزان القوى يميل لمصلحة المتمردين الذين حصلوا من الخارج على أسلحة متطورة كالصواريخ المضادة للدروع وأعتدة أخرى. وبعد هدنة قصيرة اشتعلت الحرب الثالثة ثم الرابعة، الأمر الذي ساعد الحوثيين على احتلال مواقع عسكرية متقدمة وطرد القوات النظامية منها. ولما بلغ الوضع الأمني هذا المأزق، تدخلت قطر بهدف إنهاء الحرب في محافظة صعدة، وتسهيل عمل اللجان التي تشكلت من الطرفين. وانتهى الأمر بإصدار وثيقة ملزمة تنص على إيجاد تسوية للمعتقلين وتنظيم عملية اقتناء السلاح الخفيف. وبسبب تجاهل «وثيقة الدوحة» اشتعلت الحرب السادسة التي أرادها الرئيس علي صالح أن تكون آخر الحروب. في حين أراد المتظاهرون والمتمردون أن تكون نهاية عهد رئيس استمر في السلطة أكثر من ثلاثين سنة. لهذا السبب وسواه قرر المعتصمون في 15 محافظة تسيير عشرات الآلاف في تظاهرات يومية لفرض المزيد من الضغوط على الرئيس ودفعه الى تليين موقفه واستعجال إعلان تنحيه عن الحكم. في سبيل تنفيس الاحتقان الشعبي، دعت السعودية طرفي الصراع الى جلسات حوار تقام في الرياض، من أجل إيجاد حل مرضٍ وتأسيس أرضية مشتركة لفض الاشتباكات. وكانت أحزاب المعارضة الممثلة في تكتل «اللقاء المشترك»، قد حددت شروطها بالمذكرة التالية: أولاً – يعلن الرئيس تنحيه عن منصبه وتنتقل سلطاته وصلاحياته لنائبه. ثانياً – يبدأ نائب الرئيس مهماته بإعادة هيكلة المؤسسات الرسمية، بعيداً عن معايير القرابة والقبلية والولاء الشخصي. ثالثاً – يصار الى تشكيل مجلس وطني انتقالي تتمثل فيه كل شرائح المجتمع اليمني يتولى طرح مختلف القضايا المتعلقة بقضية الجنوب وإعادة صوغ الإصلاحات الدستورية وتطوير النظام البرلماني. رابعاً – العمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية موقتة تترأسها المعارضة تقتصر مهماتها على تثبيت الوضع الاقتصادي وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية بحسب الدستور الجديد. في رده على هذه المذكرة، أعرب الرئيس علي عبدالله صالح، عن استعداده لفتح باب النقاش في صنعاء أو الرياض، شرط إنهاء الاعتصامات في الساحات والشوارع قبل البحث في الأمور الجوهرية. ومع أنه لم يتطرق في تعليقه الى الأمور التي يعنيها، إلا أن الأزمات السابقة رشحت ثلاث مشاكل عالقة: أولاً – التمرد الحوثي الآخذ في الاتساع والتمدد بدعم خارجي. ثانياً – التصدي للحركات الجهادية المرتبطة ب «القاعدة»، والتي نفذت سلسلة عمليات كبيرة خلال الأشهر الأربعة الأخيرة. ثالثاً – معالجة التوتر الحاصل بين الشمال والجنوب عقب 18 سنة على توحيد اليمن وأربع عشرة سنة على حرب الانفصال. مع بداية هذا القرن، بدأ نشاط تنظيم «الشباب المؤمن» يتوسع في محافظة صعدة ويفتتح حوزات علمية في المحافظات الأخرى، معتمداً في انتشاره على الموارد المالية التي تصله من إيران وبلدان أخرى. ويقول المؤرخون إن عدد أفراد المذهب الزيدي لا يزيد على 30 في المئة من سكان اليمن البالغ عددهم 20 مليوناً. وتعود جذور حركة الحوثيين الى ثمانينات القرن الماضي، عندما تحولت الحوزات الدينية الى مراكز سياسية. وقد أشرف على تنظيم تلك المراكز حسين الحوثي مؤسس حركة «الشباب المؤمن». وبسبب تفرغه لهذا النشاط تنازل حسين عن مقعده النيابي لشقيقه يحيى بدر الدين الحوثي الذي احتضنته إيران وساعدته مادياً وعسكرياً. قبل ثلاث سنوات أعلن الرئيس علي عبدالله صالح، أن العمليات العسكرية الجارية ضد حركة الحوثيين في محافظة صعدة، أوشكت على الانتهاء. ووصف تمردها بأنه «يهدف الى الترويج لأفكار عنصرية متخلفة». وذكرت التقارير الأمنية في حينه، أن عدد قطع السلاح المخالفة للمعايير التي ضبطتها الأجهزة الأمنية وصل الى 126.365 قطعة متنوعة. الأسبوع الماضي، صرح وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، أن الاضطرابات في اليمن خلقت وضعاً مقلقاً، خصوصاً أنه حوّل انتباه الدولة عن مكافحة تنظيم «القاعدة». ثم أعرب عن مخاوفه الأمنية بسبب انعدام الاستقرار الذي تستغله «القاعدة» لتوسيع نفوذها في الجزيرة العربية. أي النفوذ الذي تنامى منذ عام 2005 في شكل منظم، وفي صورة تنظيمات مختلفة أهمها: القاعدة في جنوب جزيرة العرب... وقاعدة الجهاد في جزيرة العرب... وكتائب جند اليمن... والجهاد الإسلامي في اليمن الذي تبنى تفجيرات صنعاء. ويرى الصحافيون الذين رافقوا غيتس في زياراته الأخيرة، أن اهتمامه «بالقاعدة» ناتج من قناعته بأن أسامة بن لادن سيضطر الى مغادرة مخبئه الواقع بين حدود أفغانستان – باكستان، عقب انسحاب القوات الأميركية نهاية هذه السنة. وبما أن مؤسس «القاعدة» كان قد أعلن مراراً رغبته في الانتقال الى موطنه الأصلي (حضر موت)، فان النشاط الذي يبديه أعضاء هذا التنظيم يصب في هذا المعين. أي في استمرار الأزمة وفصل «اليمن الجنوبي» عن «اليمن الشمالي». وقد أشار منظر «القاعدة» عمر عبدالحكيم (أبو مصعب السوري) في كتابه الى أهمية اليمن كقاعدة أساسية لتنظيم «القاعدة». وكتب يقول: «إضافة الى العامل الجغرافي في اليمن، والمرتبط بطبيعة جبلية حصينة، فان حدوده المفتوحة تزيد على أربعة الآف كلم أما سواحله البحرية فتزيد على ثلاثة آلاف كلم. وتتحكم بواحدة من أهم البوابات البحرية، أي مضيق باب المندب. في ضوء هذا الواقع، سيشارك بعض دول مجلس التعاون الخليجي في جلسات الحوار التي ستعقد في الرياض من أجل تعزيز أجواء المصالحة الوطنية والإصلاحات الدستورية. ومع أن عبدالملك الحوثي لم يعلن موقفه النهائي بعد، إلا أن رفضه السابق للمشاركة في «اللقاء المشترك» الذي يضم كل أطياف المعارضة، لا ينبئ بالموافقة. خصوصاً بعدما استثنى النظام من أي حوار مطالباً بإسقاطه، وإسقاط نظرية «لا غالب ولا مغلوب»! عقب انتهاء الحرب الأهلية في اليمن عام 1970، أعلنت السعودية اعترافها به كدولة مستقلة استقلالاً تاماً، خصوصاً بعد انسحاب القوات المصرية من أراضيه. كذلك أعلنت المملكة باسم قيادتها أن استقرار اليمن الشمالي وأمنه وازدهاره جزء لا يتجزأ من أمن المملكة واستقرارها. وقد أنشئت في حينه لجنة تنسيق سعودية – يمنية برئاسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز ظلت ناشطة حتى وقّع الملك عبدالله بن عبدالعزيز اتفاقية ترسيم الحدود مع الرئيس علي عبدالله صالح. في هذا السياق، يتفق زعماء دول مجلس التعاون الخليجي على ضرورة دعم السعودية في جهودها الرامية الى إنهاء أرمة اليمن بطريقة تحصنه ضد التوسع الإقليمي الذي تنشده طهران من وراء دعم «القاعدة» وأنصارها. ومن المؤكد أن الذي يسيطر على خطوط الملاحة في مضيق باب المندب، يمكنه التحكم بأكثر من أربعين في المئة من النفط المنقول الى الدول الصناعية. ويتوقع الخبراء أنه في حال سقوط الصومال نهائياً في أيدي القراصنة أنصار «القاعدة»، فان «الكماشة» تقفل أيضاً على أمن البحر الأحمر. أما في حال انشطار اليمن الى يمنين، شمالي وجنوبي، فان نموذجاً آخر للسودان سيكمل تفكيك الدول العربية الذي ظهرت بوادره في العراق المثلث الأضلاع، وليبيا المرشحة لفصل بنغازي عن طرابلس. والبقية تأتي... * كاتب وصحافي لبناني