أعطى رد الفعل الأمني السوري على انتفاضة أهالي «درعا» انطباعاً واضحاً عن انفعالية النظام وخوفه الشديد من الحراك الشعبي الأخير، هذا الرد العنيف أدى لسقوط مئات المتظاهرين السوريين في «درعا»، وسجن العشرات من الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم الرابعة عشر، وبعيداً من المؤثرات الإعلامية التي تتحكم فيها القوى الإقليمية، بحسب مصالحها الذاتية، نجد أننا نغوص في معادلات يختفي منها أكثر من عامل ويتحكم فيها أكثر من لاعب، فالداخل السوري يختلف عما يظهر به أمام العالم، إذ تتحكم في ضبابيته عدة ظروف صنعتها آلية المحافظة على السلطة. فعلياً فإن عمر النظام السوري هو أربعة قرون، إذ يعتبر تسلم الرئيس الابن للحكم امتداداً لحكم والده، (عام 2000) وفق سيناريو سريع مع محاولة لترضية الدستور السوري، حيث تم فيه معالجة سريعة لخمسة موانع قانونية رئيسة خلال نصف ساعة ليتم تسليم الرئيس بشار خلالها الحكم، هذا يدفعنا للتفكير ملياً فيمن يقف وراء تثبيت حكم العائلة أو (الطائفة) بأسلوب تجّذيري. إن المظهر الرسمي للدولة يبدو كجمهورية يحكمها حزب البعث العربي الاشتراكي، إذ تم رسم وتشكيل بعض المظاهر في الدولة التي تساعد في إظهار عروبة النظام، تسعى لتوحيد الدول العربية، وكذلك احتواء النظام السوري للكثير من الحركات المعارضة العربية، وتوفير الدعم المادي واللوجستي للكثير من الأحزاب في دول عربية عدة. ولكن هل هذه سوريا الحقيقية؟ كان للظروف الإقليمية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات الدور الكبير في توجه رأس الدولة لتثبيت الحكم لدائرته المغلقة، فقد شهدت هذه الحقبة ولادة الثورة الإيرانية التي التقت مع مصالح رأس النظام السوري واتفقت معه على كثير من النقاط أدت إلى تعاون وثيق بينهما، وحينها بدأ النظام بتغيير النسيج المكون لمراكز القرار في الدولة والجيش والأمن، بحيث تم تغيير هذه المراكز لمصلحة النظام ما أدى ذلك إلى رفض شعبي لتهميش الجزء الأكبر من الشعب، وتقابل هذا الرفض بأحداث دموية أتت فيها الدولة على كل معارض أو مشبوه محتمل، ورسخت فكراً ترهيبياً لا رحمة فيه، خلالها كان الإخوان المسلمون هم رأس الحربة في الطرف المقابل للنظام. وعليه استمر عمل النظام على تحويل أجهزة الدولة إلى أدوات أمنية بحتة، وغذى مراكز القرار في كل الأجهزة بأفراد من هذه الدائرة المغلقة لتكون خطوط دفاع أمنية عنيفة للحفاظ على شخصية النظام وعلى الميزات التي نالتها. ولتثبيت الحكم لمصلحة النظام القائم في سورية لعقود طويلة كان لابد لهذا النظام من تهميش الحالة الدينية بكل طوائفها، والاحتماء خلف حزب البعث، وتشكيل خندق الصمود والتصدي الذي كان يتغذى على استثمار المشكلات القومية لتكون ضوابط لتبرير حال الطوارئ وتبعاته في الجبهة الداخلية. شكل النظام بعدها مدخلاً واختراقاً لمنظومة الخصوصية العربية لدعم المشروع الإيراني ورأس حربته «حزب الله»، وذلك بعد تقديم التسهيلات لحماس والجهاد الإسلامي، ما ساعد الحكم في تخفيف تأثيرات التناقض العقائدي المفترض بين النظام وبين جماعة الإخوان المسلمين المعارض الأول، واستطاع النظام بذلك التخفي في مظهر رأس الحربة للمعسكر الوطني المقاوم مشتركاً مع المعسكر الإيراني وحزب الله، كان ذلك لقطف مستحقات اللقب في السيطرة على ما تبقى من مقدرات الشعب، وكذلك لتحقيق واجهة للاختراق الفارسي نحو الشرق العربي. إذاً هي أربعة قرون كاملة للنظام الأمني على سدة القرار نشأ فيها جيل جديد فتح عينيه على معادلات مشوهه وإعلام بلسان واحد، وكذلك على توجيهات من الأهل باستحالة التفكير بالتغيير وحتى وصل الأمر مع الأهالي بالإيحاء قصراً بوطنية النظام حماية للجيل الصاعد من بطش الأجهزة الأمنية المحتوية للنظام الذي استمر في ممارس تقمص الشخصية القومية والوطنية، معتمداً على الدعم الإيراني له الذي كشف عن خبث مشروعه للخلافة (ولاية الفقيه) وذلك حين لم يتوان مثلاً عن إمداد الحكم في سورية بالسلاح، وكذلك بمليشيات من «حزب الله» لقمع الانتفاضة الأخيرة التي حدثت في مدن سورية عدة، في حين يتباكى النظام في إيران وحزب الله لدعم مشروع الخراب الذي يقوده الفوضويون في البحرين، وهم الذين قتلوا رجال الشرطة دهساً في شوارع المنامة وباسم دعم انتفاضة الشعوب العربية! لذا نجد أن الشعب السوري يعيش حالة من التعقيد الأمني والتردد الكبير لطلب التغيير والسعي له بسبب عدم القدرة على فك الالتحام العضوي بين مراكز القوى في سورية ونظام الحكم، فأدوات الانتفاضة تعاني من الضعف بسبب الانفصال الكامل بين نخب الشعب المعارضة وبين أدوات القوة والمبادرة والإعلام، إذ إن جميع المؤسسات الشعبية والعمومية والأمنية والعسكرية يحكمها كيان متنافر حكماً وبالحد الأقصى مع الشعب بفعل الطائفة والمصالح الشخصية، ولن يتوانى هذا الكيان عن إحداث مجازر لا سقف لها بحق هذا الشعب للمحافظة على النظام وبالتالي على مصالحه، وفي الحال السورية لا يوجد حل وسط، ولن يكون هناك انتقال سلمي للسلطة، أو إصلاح بمعنى الإصلاح، وهذا ما تدركه النخب السورية الوطنية بشكل كامل، ويجعلها تفكر بالطريقة الملائمة للاستمرار والتصعيد للانتفاضة المستحقة، التي انطلقت بوتيرة هادئة تتحسس رد الفعل الرسمي فوجدت قمعاً لا يجد مكاناً في العقل لاستيعابه.