في مراكز البحوث السياسية والاجتماعية الغربية، يبدو بشار الأسد شابا عصريا (مودرن) أكثر منه رئيسا إصلاحيا. في خطاب الرئاسة الوراثي قبل عشر سنوات، حدد بشار مهمته «بمواكبة العصر والتطوير». في العصرنة، عرَّف بشار السوريين على الإنترنت. واستعان بأحدهم لنشر الهاتف المحمول. ثم استدرك قائلا إنه لا يملك عصا سحرية (للتغيير). الزلازل السياسية (التغيير بالقوة. والثورة. والانتفاضة) لا تحدث، غالبا، في عصر القبضة/ المِطْرَقَة (ستالين. فرانكو. موسوليني. القذافي الأب. الأسد الأب). إنما تحدث في عصر القبضة الليِّنة، عصر سيف الإسلام الابن. والأسد الابن. المضحك المبكي أن السوريين استخدموا العَصَوَيْن السحريتين (الإنترنت والمحمول) لمطالبة بشار بالإصلاح. بعد مجازر الأسبوع الماضي، الإصلاح بالترقيع لم يعد مقبولا أو كافيا. الشعب اليوم يطالب بالتغيير. ما هي إنجازات بشار التطويرية؟ سعى الرئيس السوري إلى عصرنة الإدارة الحكومية، محاولا إقناع الأُطُر الإدارية المترهلة بأن مهمة الدولة خدمة المواطن واحترامه، لا الاستعلاء عليه. الأهم تحويله اقتصاد الدولة الاشتراكي، إلى اقتصاد السوق «الاجتماعي». عمليا، حدث الانتقال إلى الليبرالية المشتركة بين القطاعين العام والخاص سريعا، من دون ضوابط، بحيث مَكَّنَ الاقتصاد المختلط رجال «البزنس» من السيطرة على ثلثي الاقتصاد والإنتاج. هذه الليبرالية الدردرية (نسبة إلى «شاخت» سورية عبد الله دردري) كانت متوحشة كليبرالية ريغان وثاتشر. الأسباب كثيرة. في مقدمتها الفساد الذي يقول بشار إنه ماضٍ في مكافحته. لكن العمولة الباهظة التي تدفعها الشركات الأجنبية للمتنفذين والمحظوظين، يتحملها المستهلك السوري المسكين، نتيجة لإضافة سعر العمولة إلى سعر السلعة. لذلك كان الصراخ في مسيرات الانتفاضة عاليا: «ما بدنا حرامية». الليبرالية أرضت أيضا تجار البازار، والبورجوازية التجارية والصناعية حليفة رجال السلطة والضباط الأمنيين والعسكريين. أما الوجه الإنساني لهذه الليبرالية، فقد كان بشعا. ومشوها: فقد العمال المكاسب النقابية التي حصلوا عليها، ليس بالنضال النقابي، إنما بولائهم الذليل والطويل للنظام. أصبح هضم حقوق العامل وتسريحه سهلا على رجال البزنس، بتعديل قانون العمل. ولم يعد المالك يقبل برفع الإيجار. فقد مَكَّنَهُ تعديل قانون الإسكان من طرد المستأجر، بأحكام قضاء فاسد. ومُرْهَق بكثرة القضايا، في حين يعجّ الشارع بألوف خريجي القانون الذين كان بالإمكان، بعد تدريب قصير، استخدامهم كوكلاء نيابة. ثم قضاة. للتخفيف من اتساع الهوة بين دخل الفقراء وأرباح الأغنياء، زاد بشار أجور الموظفين عدة مرات. فارتفعت الأسعار (التضخم) لتلتهم المنح والمكرُمات. خطط التنمية عجزت عن استيعاب البطالة بين الشباب (الرقم الرسمي 8 بالمائة. الرقم الحقيقي يفوق 30 بالمائة). وحالت المحاباة والمحسوبية دون توظيف الأكفاء بالمباراة. فنشأت خلال أربعين سنة طبقة طائفية إدارية أغنتها الرشوة. وحصّنتها في مواقعها، على رأس الإدارات والمؤسسات، من المساءلة والمحاسبة. كانت كل هذه العوامل السلبية من أسباب التذمر الشعبي الصامت الذي انتهى بانفجار الانتفاضة. انكماش الطبقة الوسطى، تحت هذه الكوابيس، دَمَّرَ الاستقرار الطويل الذي فرضه النظام برهبة القمع المخيف، مباهيا بالظن أن سورية محصَّنة ضد العدوى بانتفاضتي تونس ومصر. وكان من الحكمة الاكتفاء بالشرطة المدنية بلباسها العادي. عندما ارتكبت قوى الأمن المسربلة بالسواد المجازر، صعَّدت الانتفاضة السلمية المطالب. انتقلت من المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بالتغيير. ما الفرق بين الإصلاح والتغيير؟ الإصلاح عملية ترقيع لقانون الطوارئ (سنّ قوانين أقسى بحجة مكافحة الإرهاب). ترقيع لقانون الانتخاب. ترقيع الأكراد بالتجنيس. ترقيع المنتقبات بإعادتهن إلى سلك التدريس، ليستكملن إغلاق عقل الأجيال، إرضاءً للشيخ البوطي (شاويش السنّة) الذي يهادن النظام، بالسكوت عن «التشييع» في الحوزات (المعاهد) الإيرانية. ماذا يعني التغيير؟ أدخل الآن في المنطقة المحرمة: الحزب. الجيش. الأمن. السياسة الخارجية. أكتفي بالعناوين، لضيق المجال أمام التفاصيل. التغيير يفرض إسقاط نظرية «الحزب القائد» البالية التي جعلت «البعث» ورقة التوت الشرعية التي تغطي عورات النظام. التناقض صارخ بين الشعار التاريخي (وحدة. حرية. اشتراكية) والواقع الراهن (ليبرالية بلا حرية. وبلا وحدة). النظام بحاجة إلى ورقة توت جديدة. بشار بحاجة إلى حزب جديد. حزب تنتخب القاعدة الشبابية قياداته العليا. حزب للمثقفين لإنعاش الحوار مع الذات. مع الناس. وليس حزب الموظفين المحنطين. ولكل مومياء حزبية «عفريت» عسكري. أو أمني، يحميه من الحسد والسقوط. حان الوقت لبناء جيش مقاتل بتطويع المحترفين، بدلا من تجنيد الشباب «الأغرار» ثلاث سنين في عمالة مقنعة يقضونها، في الخدمة، في ميليشيات النظام الأمنية، أو الخدمة المهينة في مزارع و«فيلات» كبار الضباط العظام. السياسة الخارجية ليست بيانا إنشائيا يلقيه فاروق الشرع (الحوراني الصامت عن مجازر درعا) أو وليد المعلم ابن ريف دمشق (الغوطة) الصامت عن مجازر دوما. عربين. حَرَسْتَا.. إذا كان من حق نظام بشار الإمساك بأوراق إيرانية. تركية. لبنانية، أملا في استعادة الجولان بالديبلوماسية، فمن حق المعارضة أن تعترض. تناقش. تحاور النظام عن أسباب تقديم المصلحة الوطنية الأضيق، على المصلحة القومية الأعلى والأعرض. عن أسباب تفكيك الحلف القومي مع مصر والسعودية، وتوثيقه مع إيران نجاد. وخامنه ئي. وحسن حزب الله. وعن أسباب العداء لسنّة لبنان، والانحياز لشيعته المتحالفة مع إيران. اقتحم باراك أوباما النظام السياسي الأميركي تحت شعار (نحن نستطيع/ we can). هل «يستطيع» بشار الانتقال من الإصلاح بالترقيع، إلى التغيير بالتنفيذ والتطبيق؟ هذا هو التحدي الأكبر لهذا الشاب الذي يواجه أزمة اختبار لم يعرف مثلها في حياته السياسية والرئاسية. هل يستطيع بشار انتزاع الممكن من شدق المستحيل. من الحزب. من الطائفة. من الجيش. من الميليشيات الأمنية، ليغدو رئيسا ملتزما بدستور ديمقراطي، بعدما أصبح صعبا بقاؤه رئيسا سلطويا؟ لست متشائما. لكني أشك في أنه يستطيع. قد تكون المطالبة الشعبية بالتغيير نوعا من التعجيز الرومانسي. إذ كيف يستطيع هذا الشاب التخلي عن قواعده الطائفية. العسكرية. الأمنية، حتى ولو بدت مهتزة بالزلزال الشعبي، لكي ينحاز إلى انتفاضة إنترنت (افتراضية) تساندها قوى شارعية مجهولة؟ هذه القوى المجهولة وَحَّدَتْها، اليوم، كراهيتها للنظام، وغدا تمزقها انتماءات السياسة. والدين. والآيديولوجيا، في غياب زعامات سياسية لا يستطيع النظام أن يحاورها. فقد حال أصلا دون نشوئها، بإلغائه السياسة على مدى أربعين سنة نقلا غن الشرق الاوسط السعودية