المنهجية الفكرية والإبداع والتحليل، عناصر تفتقدها المناهج التعليمية والتربوية في الكثير من الدول العربية خصوصاً في المؤسسات التعليمية الرسمية، حيث يتحوّل التعليم الى عملية تلقينية تفتقر الى الفكر البحثيّ الابتكاريّ. والنتيجة أنّ الطالب سواء في المدرسة أم الجامعة يصبح أشبه بآلة للحفظ وتخزين المعلومات يستخدمها في الامتحان في شكل محدود للنجاح والعبور الى مرحلة دراسية جديدة من دون بلورة منهجية فكرية واضحة قائمة على البحث أولاً. إلا أنّ هذا الواقع ليس حتميّاً ويمكن تغييره من خلال خطوات محدّدة تتعلّق بالأستاذ من جهة وبالتلميذ من جهة أخرى. وهذا ما دعا إليه المؤتمر السنويّ الثالث لمركز البحوث التربوية تحت عنوان «القياس التربويّ للتنمية المستدامة». وشكّل المؤتمر بادرة أمل في المجال التعليميّ بهدف حضّ الأساتذة على التعلّم مدى الحياة وسدّ الهوّة بين برامج إعداد الأستاذ قبل الخدمة وتنمية المهنية أثناءها والاستفادة من آخر التطورات في إصلاح الأنظمة التربوية واستخدام التقييم المصداق من أجل التعلّم المجدي في غرفة الصفّ. وحضر تربويون ذوو خبرة طويلة من جميع أنحاء العالم لفتح باب النقاش واسعاً أمام إمكانات تطبيق مفهوم التعلّم مدى الحياة لدى الأساتذة كما لدى الطلاب في المنطقة العربية. فرئيس المجلس الوطنيّ الأميركيّ لاعتماد مؤسسات إعداد المعلمين (NCATE) جايمس سيبولكا نقل خبرة الولاياتالمتحدة في مجال تطوير أنظمة بيانات طوليّة لتتبّع المعلومات حول الطلاب وربطها بمعلّميهم. وقدم مدير المركز العربيّ للبحوث التربوية لدول الخليج الدكتور مرزوق عبد الغنيم رؤية لمفهوم التعلّم مدى الحياة وإمكان تطبيقه في برامج إعداد المعلّم وتدريبه أثناء الخدمة أيضاً، ما شكّل حافزاً لدى المعلّمين لطرح أفكارهم الخاصة حول هذه التطبيقات والمشاركة الفعّالة في تحقيقها. وشكّل مشروع اختبارات المعلمين في المملكة العربية السعودية، الذي يتولاه المركز الوطنيّ للقياس والتقويم للتعليم العالي (قياس)، حجر أساس يمكن البناء عليه في دول عربية أخرى لإعداد المعلّم وتوجيهه مهنيّاً. أفكار عدة طرحها المحاضرون في المؤتمر تهدف لتعزيز موقع الأستاذ وقدرته على التعامل مع الطلاب كباحثين عن العلم. ومن هذه الأساليب الحديثة ما طرحه رئيس قسم الفيزياء التطبيقية ومدير الأبحاث التربوية في قسم الفيزياء في جامعة هافرد إيريك مازور: ما يُعرَف بتعليم الأقران أي تدريس صفوف المحاضرات الكبرى في شكل تفاعليّ. كذلك برزت تقنية التصحيح الإلكترونيّ لتنمية قدرات المعلّمين كمصحّحين جديرين بالثقة، والتي دعا الى تطبيقها في المنطقة العربية بيتر جاكسون من شركة Pearson International Learning Solutions. وهذه التقنيات الجديدة يجب أن يصاحبها تطوير كبير في التفكير النقدي والمنطقيّ لدى الأساتذة كما لدى الطلاب، وفق محرّر مجلة العلوم والتربية مايكل ماثيوز، من خلال تعلّم التاريخ وفلسفة الحقول المعرفية. الخبرات العالمية التي استقدمها مركز البحوث التربوية واكبتها بحوث متطوّرة وبرامج حديثة قدّمها المركز نفسه ومنها برامج إعداد المعلّم المدمجة (التعلّم عبر الإنترنت ووجهاً لوجه) وتنظيم مجتمعات التعلّم المهنيّ وتطوير أنظمة إلكترونية أساسية للتعلّم والقياس وإنشاء فرص بحوث عالمية يشارك فيها المعلّمون. وفي حديث ل «الحياة»، اعتبر رئيس مجلس إدارة مركز البحوث التربوية حبيب صائغ أنّ «الأستاذ هو محور العملية التعليمية وهو قادر على رفع مستوى الطلاب. لذا، يقوم المركز بدعم الأستاذ الى أقصى الحدود كي ينجح في مهنته». واعتبر صائغ أنّ «الأجيال الجديدة من الأساتذة قادرة على التكيّف مع التكنولوجيا سريعاً، إلا أنّ الأجيال السابقة تحتاج الى مزيد من الدفع كي تندمج في إطار الابتكارات الجديدة. وبرامج التنمية المهنية المستدامة تساعد الأساتذة كي يغيّروا في أساليبهم التعليمية ليصبح كلّ تلميذ متعلّماً». إلا أنّ هذه البرامج المتطوّرة ليست الابتكار الوحيد لمركز البحوث التربوية في مجال تطوير المناهج التربوية، فقد طوّر المركز أيضاً إطاراً مرجعيّاً تربويّاً حديثاً يستند الى الأبحاث وهو نظرية «التربية لبناء الملمح» (PSE). وهذا الإطار الشامل يتمّ استخدامه في تعليم الطلّاب والمعلّمين على السواء، ويشكّل نقلة نموذجية في التربية. وفي حديث ل «الحياة» اعتبر مدير البكالوريا العربية الدولية (IAB) في مركز البحوث التربوية إبراهيم هلّون أنّ «نظرية التربية لبناء الملمح هي شاملة لكلّ المواد، وهي ترتكز على تطوير ملمح عند الطلاب كما الأساتذة يتميز بأربع سمات: متمعِّن، منتج، مبادر ومبدئيّ. وهذا الإطار المرجعيّ يمكّن الطلاب والأساتذة من النجاح في الحياة المعاصرة وليس فقط في الامتحانات». ويطبق هذا المرجع حالياً على المرحلة الثانوية، ليُطبَّق بعد فترة على كل المراحل الدراسية. ويشير هلّون الى أن «سرّ نجاح المركز هو الارتكاز على الأبحاث الميدانية والعمل المباشر مع الأساتذة إضافة الى التنسيق مع وزارات التربية والمؤسسات التعليمية في الدول العربية لتحويل النظرية الى نواتج تعلّم يمكن أي دولة أن تحقّقها». وحول البكالوريا العربية الدولية، قال هلّون انّها «تتوّج فلسفة المركز من خلال بلورة منهج مشترك بين الدول العربية يرتكز على المناهج المطّبقة واقعاً، وهدف هذه البكالوريا إراحة التلاميذ من هاجس الامتحانات حيث يصبح التقويم يومياً وليس عبر امتحان نهائي للتأكد من إذا كان الطالب قد اكتسب السمات الأربع المذكورة». إحداث نقلات نوعية في عالم التربية خصوصاً في المنطقة العربية كان الهاجس الأساسيّ للمؤتمر السنويّ لمركز البحوث التربوية. والأفكار التي برزت خلاله شكّلت حجر أساس لتحقيق هذه النقلات ما يتطّلب جهوداً على مستوى وزارات التربية أولاً وعلى مستوى المؤسسات التعليمية ثانياً، كي يصبح التعليم وسيلة أساسية لبناء الفرد – المواطن.