عندما قارب الرسام النهضوي الإيطالي باولو اوتشيلو الثمانين من عمره وشارف على الرحيل عن هذا العالم، دهش معاصروه كثيراً، إذ اكتشفوا أنه - على عكس كل الفنانين من أبناء جيله - لم يرسم طوال حياته المديدة سوى نحو ستين لوحة كان من المؤكد ان في الإمكان نسبتها اليه. أما فازاري، الرسام والكاتب الذي عرف بكتابته سير فناني عصر النهضة، فقد فسر قلة أعمال أوتشيلو بقوله: «لقد بذل جهوداً كبيرة، وأضاع وقتاً ثميناً من حياته منهمكاً في شؤون المنظور، وذلك ليتمكن من أن يربط نفسه، دائماً بأمور الفن الأكثر صعوبة. وهو، لذلك، أحال الى العقم عبقريته التي كانت، في طبيعتها، مبهرة وعابقة بالخيال»، وإذ قال فازاري هذا، نجده يضيف: «... ولكن إذا كان أوتشيلو اهتم بالمنظور وأبدع فيه، فإن المنظور كان أيضاً عزيزاً ومحبباً الى كل الذين مارسوا مهنة الرسم من بعد هذا الفنان». والحال ان باولو اوتشيلو، كان دائماً في زمنه كما في الأزمان التي تلته مثيراً للجدل والإعجاب المندهش في الوقت نفسه. وإذا كانت قواعد المنظور في الرسم تعتبر اليوم، من البديهيات، فإن اتباعها - بل اختراعها في زمن اوتشيلو - كان يعتبر أمراً جديداً ومجدّداً. ومن هنا كان يمكن الباحثين المعاصرين أن يقولوا لنا، حين الحديث عن أوتشيلو ان عمله «الذي ينتمي الى العلم بقدر ما ينتمي الى الشعر، حيّر المعنيين طويلاً»، ذلك ان صرامة قواعد المنظور في أعماله تظهر بواسطة الشاعرية الطاغية وقوة الخيال لديه. أما الألوان الآتية من قدر كبير من التعارض والتناسق الطردي، فإنها تخلق في لوحاته نوعاً من الخيال الروائي الذي تتجاور فيه العبثية مع الواقع، الحلم مع المعرفة، الجمال مع الفظاعة، في شكل يرهص بالكثير من الأبعاد التي سيكون عليها فن الرسم في القرنين التاسع عشر والعشرين. ان الكثير من اللوحات التي رسمها أوتشيلو خلال حياته يقول لنا هذا الواقع. ولكن تقوله أكثر تلك اللوحات الكثيرة التي رسم فيها المعارك الطاحنة وفظاعات الحروب. ومن بين هذه اللوحات تبرز، عادة، لوحته «معركة سان رومانو» التي تكاد، في أسلوبها وموضعة الشخصيات والأحداث، وعلاقة مقدم اللوحة بخلفيتها، وصولاً الى الألوان وخطوط الرماح والتمازج بين الطبيعة والبشر الذين يدنسونها بحروبهم ودمائهم، تكاد أن تلخص عالم أوتشيلو خير تلخيص، حتى وإن كان فازاري نفسه قال، وتحديداً في معرض تعليقه على هذه اللوحة المعروضة الآن في «ناشنال غاليري» في لندن: «كان في وسع أوتشيلو أن يكون الموهبة الأكبر والأكثر سحراً وابتكاراً في فن الرسم منه جوتو، لو أنه أولى الوجوه والحيوانات تلك العناية نفسها، وكرّس لها ذلك الوقت نفسه، اللذين أولاهما لدراسة المنظور...». والحقيقة ان في الإمكان ان نستشف من كلام فازاري هذا وكأن أوتشيلو ضحى بالشاعرية والجودة الفنية لمصلحة علم منظور كان يريد فرضه، غير ان تأملاً حديثاً لهذه اللوحة، وللوحتين أخريين «شقيقتين» لها تمثل كل منهما أيضاً فصلاً من معركة سان رومانو (توجد احداهما في متحف «أوفيتزي» في فلورنسا، والثانية في متحف «اللوفر» الباريسي)، سيقول لنا ان فازاري كان ظالماً في حكمه. واللوحات الثلاث معاً، تظهر لنا أوتشيلو، وكأنه راوي حكايات ماهر، عرف خصوصاً كيف يحيط لوحاته بسواد قاتم ليكرس المساحة كلها للتركيز على الشخصيات وحركتها في مشاهد «سينمائية» مبكرة. حقق أوتشيلو اللوحات الثلاث التي نشير اليها، وفي مقدمها لوحة «ناشنال غاليري»، في حوالى عام 1440، وكان في حوالى الخمسين من عمره (حتى وإن كانت نشرة المتحف اللندني تشير، خطأ، الى انه كان يقترب حثيثاً من الستين). وهو رسمها بناء على توصية من كوزيمو دي مديتشي الذي كان راغباً في أن يمتلك سلسلة من اللوحات التي تمجّد تلك المأثرة الحربية، في غرفته الخاصة في قصره الفلورنسي. وهذه اللوحات الثلات تعتبر معاً الأعمال الوحيدة الكبيرة من بين كل ما رسمه أوتشيلو التي ظلت في حال جيدة. وقبل عام 1492، على أي حال، لم يكن من السهل على الباحثين تحديد الموضوع الذي تتحدث عنه اللوحات، لكن جردة تعود الى ذلك العام أكدت، بما لا يقبل الريب، ان المعركة المصورة، انما هي تلك التي تعرف باسم «معركة رومانو» والتي اعتبر الفلورنسيون انهم سحقوا فيها جنود قوات سيينا المنافسين سحقاً تاماً. ورجّح الباحثون في ذلك الحين ان الفارس الممتطي الحصان الأبيض في اللوحة التي نحن في صددها هنا، انما هو بطل تلك المعركة وفارس ذلك اليوم الفلورنسي المجيد، نيكولا دي تولانتينو. وعلى رغم أن تولانتينو هذا، لم يكن من أقارب آل مديتشي، فإن هؤلاء مالوا دائماً الى اعتبار انتصاره انتصاراً لهم، وهذا ما يفسر - بالطبع - اهتمام كوزيمو بأن تعلق رسوم المعركة في غرفته الخاصة. ولعل من الأمور اللافتة أكثر من أي شيء آخر في هذه اللوحات الثلاث (وفي لوحتنا هنا في شكل خاص) أن أوتشيلو ركّز كثيراً على الطابع الفروسي للوحة، من خلال كثافة الأسلحة وتلاحم الجنود والشجاعة البادية في حركاتهم وحتى في تعابير وجوههم التي بالكاد تظهر واضحة. غير أن الأهم في هذه اللوحة، هو ذلك الفارق في الأحجام - الذي كان جديداً في ذلك الحين - بين الجزءين المكونين أفقياً للوحة: مقدمها حيث تدور المعركة الحقيقية بقيادة «تولانتينو، والمؤخرة، حيث يبدو كما لو أن المعركة حسمت أو في طريقها النهائي الى الحسم. أما الجديد الجديد في اللوحة بالنسبة الى الزمن الذي رسمت فيه، فهو بنيانها، حيث نلاحظ كيف ان اوتشيلو قسمها نصفين، عمودياً: النصف الأيمن جعله تحت هيمنة الرماح، التي تبدو كقضبان آسرة تغلف المقدم والخلفية والشخصيات معاً، فيما النصف الأيسر تحرر تماماً من تلك القضبان مفسحاً المكان لما يمكن اعتباره معركة الحسم الحقيقية. والحال أن هذا التقسيم يجعلنا نشعر وكأننا «في زمن غير حقيقي» - وفق تعبير روجيه غارودي الذي كتب يوماً عن هذه اللوحة دراسة لافته - حيث نجد، ودائماً وفق تعبير غارودي ان «الرجال وبقية العناصر تبزغ آتية من قلب الليل. ان الكل يبدو هنا وكأنه يحمل معه نوره الخاص، يبرق وكأنه معدن، مع تتابع إيقاعي بين الأبيض والأسود، بين البرونز والحديد، مع مسحات صفر، حمر، بيض، تطلع في مجملها زهوراً شديدة الغرابة»... وكل هذا على خلفية سماء كانت سوداء أصلاً ويبدو انها قد أضيئت بفعل النيران أو ضروب النور الآتية من المعركة نفسها. أما الأشكال فيبدو واضحاً ان أوتشيلو لا يهتم بها، بصفتها أشكالاً واقعية، بل انطلاقاً من جمالها السحري، «ما يخلق في النهاية عالماً شاعرياً يتبع قوانين أخرى غير قوانين الطبيعة والتاريخ». عرف باولو أوتشيلو دائماً بكونه رسام الخيال الرومانسي، المستند الى سرد روائي محيّر. وهو فلورنسي الأصل. ولد في عام 1396 (أو 1397). وبدأ يتدرب على فن الرسم منذ سن العاشرة، لدى الفنان الرسام والنحات غيبرتي الذي كان يشتغل في ذلك الحين على تنفيذ الأبواب الشمالية لدار المعمدانية في فلورنسا، ولكن من الواضح أيضاً أن أوتشيلو تأثر منذ صباه بفن الرسام لورنزو موناكو، الذي كان ذا أسلوب غوطي مبكر. في عام 1425 توجه أوتشيلو الى البندقية حيث اشتغل على فسيفساء كاتدرائية القديس مرقص. وحين عاد الى فلورنسا بعد خمس سنوات، بدأ يمارس الرسم في الكاتدرائية بصورة احترافية هذه المرة، وصولاً الى عام 1436 حين بدأت شهرته تذيع في شكل جدي وكلّف ببعض جدرانيات كاتدرائية المدينة. وفي تلك المرحلة من حياته يبدو ان أوتشيلو بهر بنظريات دوناتيلو حول المنظور وراح يطبقها، معطياً في الوقت نفسه أهمية فائقة لإطار الشخصيات والبعد اللوني والخطي. ولاحقاً، طبّق هذا كله في شكله الخلاق في لوحات «سان رومانو» الثلاث. أما اللوحات الأخيرة المعروفة من بين أعماله، وأهمها «الصيد في غابة» و «خرافة هوسيتا» تظهر انه ظل حتى النهاية متمسكاً بأسلوبه اللاواقعي الشاعري. وهذا ما جعل بعض معاصريه يعتبره رساماً على حدة وتجاوزه الزمن. في عام 1475 مات أوتشيلو فقيراً في فلورنسا. [email protected]