على رغم انه عاش من السنين أطول مما عاش أي من فناني المرحلة الأولى من عصر النهضة الإيطالي، وعلى رغم انه حقق من اللوحات والرسوم الجدرانية عدداً لم يضاهه فيه أي من معاصريه أو تلامذته، فإن ما نعرفه عن حياة وتنقلات الرسام الإيطالي بيارو ديلا فرانشسكا ليس كثيراً. ذلك أن الرجل، على عكس فناني زمنه، آثر أن يعيش بعيداً بعض الشيء من حواضر الفن في ذلك الحين. عاش في فلورنسا ردحاً من الزمن وعرفه فيها كبار الفنانين، لكنه حقق أعماله الكبيرة والتأسيسية خارجها، وبالتحديد في أوريينو التي لم تكن مركزاً لنهضة فنية حقيقية. ومن المنطقي أن عيش فنان وعمله في فلورنسا أو البندقية أو سيينا، أو حتى روما في ذلك الحين، كان يحقق جزءاً أساسياً من وجود الفنان وشهرته. ومن هنا كان على فن ديلا فرانشسكا أن ينتظر طويلاً قبل أن يعترف به، وكان على مناصري فنه أن ينقبوا في المناطق النائية حتى يعثروا على تلك الأعمال ويكتبوا عنها ويدخلوها سجل الخلود، بصفتها، أعمالاً تأسيسية أحدثت نقلة كبيرة في مسيرة الفنون النهضوية. عاش بيارو ديلا فرانشسكا قرابة ستة وسبعين عاماً. ومع أن الرجل كتب واحدة من أكبر الدراسات عن فن الرسم ومن أشهرها، وعنوانها «عن المنظور»، فإن هذه الدراسة لا يمكنها أن تكشف كثيراً عن مكوّنات الفنان ودراسته المبكرة: كيف جاء الى الفن؟ من كان أساتذته؟ بمن تأثر؟ متى كانت أعماله الأولى؟ وما الذي دفعه، الى الانتقال من الرسم الديني الذي كان الأساس لفن الرسم في زمنه، الى الرسم التاريخي بل المعاصر؟ ثم لماذا كان اختياره أن يعيش بعيداً عن حواضر الفن الكبرى؟ هذه الأسئلة من الصعب الإجابة عليها بوضوح. يمكن فقط وضع فرضيات وتكهنات. غير أننا نعرف، في شكل شبه مؤكد أن بيارو ديلا فرانشسكا الذي يدين له الأسلوب النهضوي الذي ساد وسط إيطاليا طوال القرن الخامس عشر بالكثير، عمل حوالى عام 1439 في فلورنسا، على جداريات في سان اجيديو ليس لها أي وجود اليوم... وهو عمل على تلك الجداريات، وكان في الثالثة والعشرين من عمره، الى جانب آندريا دل كاستاتيو ودومينيكو فنتزيانو. فهل كان هذان أستاذين له؟ يرجّح المؤرخون أن الأخير كان حقاً واحداً من الذين أخذ عنهم ديلا فرانشسكا فن الرسم، قبل أن يطوّر هذا الفن في اتجاه اشتغال أكثر على المشاهد الطبيعية والسمات البشرية في لوحاته. وكذلك يرجّح الباحثون أن يكون ديلا فرانشسكا درس، وفي تعمّق، أعمال المؤسسين الحقيقيين للنهضة: مازاتشيو وفرا أنجليكو، محاولاً أن يبتكر، بالارتكاز الى أعمال هذين، ثم من عندياته، نوعاً من التوليف بين المنظور وعمقه، والنور المشع على حيز اللوحة، بين الشكل التشكيلي واللون. وهو حصل على هذا حقاً، لكن هذا يقربه من التأثير الفلامندي، بدلاً من أن يضعه في خانة إيطالية، فهل يعود هذا الى اللقاء الحاسم الذي كان بينه وبين الهولندي فان درفايدن في فيراري حوالى عام 1448 حين كان هذا الأخير يقيم فيها، ناشراً أسلوبه مستفيداً مما لدى الإيطاليين من عمق إحساس باللون والضوء؟ مهما يكن الأمر، من المؤكد أن هذه التأثيرات كلها لم تظهر في أعمال ديلا فرانشسكا، في شكل واضح ومتكامل إلا خلال المرحلة الأخيرة من حياته، وإن كانت إرهاصاتها تبدو باكرة لديه. وحسبنا في هذا الإطار أن نتأمل في واحدة من أشهر وأجمل جداريات ديلا فرانشسكا «هزيمة الخسرويين» حتى نتيقّن من هذا، وخصوصاً من تميّز هذا الفنان على معاصريه، وتجاوزه لسابقيه، وتأثيره الحاسم في لاحقيه، في شكل يمكن أن نقول معه إن فن الرسم (خصوصاً رسم الجداريات) في إيطاليا سيصبح بعد ديلا فرانشسكا، غير ما كان عليه من قبله. ويرى الباحثون اليوم أن تأثيرات ديلا فرانشسكا ظلت حاضرة حتى زمن رافائيل وبرامانتي على الأقل. ولكن، ما هو كنه هذه التأثيرات؟ ببساطة، وكما يمكننا أن ندرك من خلال تأمل جيّد لأعماله، كما من خلال قراءة فصول كتابه الفريد من نوعه «عن المنظور»، كان هم ديلا فرانشسكا أن يضمن للرؤية التصويرية (البصرية) أساساً علمياً. غير أن هذا لا يعني أن لوحات الرجل يمكن اعتبارها تصويراً أميناً لأفكار معينة، بل العكس. حتى في اللوحات التي تصور معارك، مثل لوحة «هزيمة الخسرويين»، لم يبتعد ديلا فرانشسكا أبداً عن موقفه الفلسفي «الأبولوني» الذي كان ينظر الى العالم من خلاله - وهو موقف يلخصه دارسو أعمال هذا الفنان بوجود إحساس لديه بالاستسلام أمام القدر، وبأن أي أمل لا يمكن إلا أن يكون عبثياً، ولهذا السبب، وصفت أعمال ديلا فرانشسكا بأنها تخلو من الفصاحة على رغم تعبيرها عن الموقف. ويمكن تلخيص هذا، في كلمات أخرى انطلاقاً من فكرة تقول إن البعد الزمني، والذي يشكل عادة جزءاً ضمنياً، ولكن أساسياً، من أي تجربة إنسانية، ليس له وجود في هذا الفن طالما أن هم ديلا فرانشسكا كان وظل دائماً التركيز على دراسة متواصلة للبعد المكاني. ولكن، هنا أيضاً، من خلال تأمل هذه الجدارية، ندرك أن الأشكال - والوجوه - التي يرسمها ديلا فرانشسكا في عمله ليست مجرد أفكار (بالمعنى الأفلاطوني للكلمة) ليست مجرد أفكار خالصة متجردة من بعدها المادي، بل العكس، هي وجوه وأشكال حقيقية، رجال ونساء من لحم ودم، تعبر نظراتهم عن مشاعرهم، ولكن وإن كان الرسام يقف بهم خارج الزمن، وفي ارتباط أساسي مع جغرافيا المكان، فإن هذه الجغرافيا، إضافة الى تفاصيل المكان في دلالته المعنوية، هي ما يعطيهم طابع السمو، وليس الخبرة التاريخية. في أعماله كافة، كما في «هزيمة الخسرويين» كان عنصر المكان هو الذي يهم ديلا فرانشسكا في المقام الأول. ومن هنا نرى في تلك الأعمال حضوراً ممتداً ويكاد يبدو لا نهائياً للمشهد المكاني، وبالتالي نلاحظ طغيان لغة المشهد المكانية - ذات الأبعاد الهندسية والتي يلعب الضوء واللون الدور الأساس في بنائها - على أي حضور بشري، ما يجعل ثمة احساس بانفصام تام بين تعبير الوجوه - المرتبط، هو، بخبرة بشرية زمنية - وبين حضور الأجساد في المكان كجزء من المكان وجغرافيته. وهذا كله شكّل إرهاصاً بما سيلي ذلك من إعطاء أهمية أكبر للوجود البشري في العمل الفني، إذ يكفّ ذلك الحضور عن أن يتبع المشهد، بل يصبح جزءاً أساسياً منه، في لعبة تضافر جدلية بين الطبيعة المحيطة والشخصيات المرسومة. بيارو ديلا فرانشسكا، الذي يعتبر اليوم واحداً من أكبر فناني إيطاليا على مر الزمان، ولد خلال العشرية الثانية من القرن الخامس عشر، الذي سيعيشه حتى نهايته تقريباً، حيث، توفي في عام 1492. وهو ولد في بورغو سان سيبولكرو بالقرب من سيينا، عند الحدود بين اومبريا وتوسكانيا. وتقول أقدم الوثائق انه عمل لدى فنتزيانو في فلورنسا قبل أن يختفي ليظهر بعدها في سيينا. ومنذ عام 1442 نجده في قريته يمارس فنه هناك ويصبح واحداً من الفنانين الذين يوصون على تحقيق أعمال متعددة الأقسام. وفي عام 1449 رسم العديد من الجداريات في فيراري مؤسساً في طريقه تلك المدرسة التي ستعرف باسم «مدرسة فيراري». أما معظم أعماله الكبرى فيكاد إنجازها ينحصر زمنياً، خلال الفترة بين 1452 و1456. بعد ذلك نجده يعمل لدى الدوق اوربينو، محققاً له بعض أجمل الأعمال التي تنتمي الى تلك المرحلة، ومن بينها بورتريهات للدوق وزوجته، وكذك ثنائيته «انتصار فدريكو دا مونت فلترو» التي تعتبر واحدة من أجمل وأغرب نتاجات الفن الإيطالي خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر. ونذكر أن ديلا فرانشسكا حقق خلال العقد الأخير من حياته، بعض أروع اللوحات الدينية في تاريخ فن عصر النهضة الإيطالي. [email protected]