كان ركام بيوت الصفيح على حاله في جبل أم نير جنوب الخليل بعد مرور أيام على قيام الجيش الإسرائيلي بهدمها. لم يكتف الجيش بهدم البيوت، وعددها 13 بيتاً تأوي 13 عائلة تعمل في تربية المواشي والزراعة في هذا الجبل منذ ما قبل إقامة دولة اسرائيل، بل هدمت أيضا آبارَ جَمْعِ مياه المطر، التي أقاموها لتوفير المياه لهم ولمواشيهم ومزروعاتهم. وعلى جبل سوسيا المجاور، ثمة بيت وحيد يتربع على قمته، أقامه أحد المستوطنين، بل وسَيَّجَ الجبل كاملاً وزرعه بالأشجار، متنعماً بالمياه والكهرباء التي أمدته بها السلطات من مستوطنة قريبة تحمل الاسم ذاته: «سوسيا». وبين الجبليْن تتجوّل، وعلى مدار الساعة، دورياتٌ عسكرية إسرائيلية توفِّر الحماية للمستوطنين المنتشرين في مستوطنات وبؤر استيطانية في المنطقة، ويطلقون على أنفسهم لقب «فتية التلال»، كما تراقب الدوريات في الوقت عينه المواطنين أصحاب الأرض، وتُغِير على أي بناء يقيمونه لإيواء أسرهم، حتى لو كان خيمة صغيرة. يمثِّل المشهدان في جبال جنوب الخليل جوهرَ الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، الممتد منذ ما يزيد على قرن من الزمان، والقائم على زرع المستوطنين وطرد أصحاب الأرض وتجميعهم في معازل مغلقة. أصحاب الأرض المشردون في ثنايا هذه الجبال، يحملون أوراق ملكية للأرض، مسجلةً بأسماء أجدادهم منذ العهد العثماني، لكن هذه الاوراق القانونية لا تجد طريقها الى السلطات الاسرائيلية، التي سنت قوانينها الخاصة على شكل أوامر عسكرية منعت بموجبها أصحاب الارض من إقامة أي مبنى أو منشأة على أرضهم حتى لو كانت بئراً لتجميع مياه المطر، تحت ذرائع امنية. لكن أهل جبل أم نير، وغيرهم من سكان جبال جنوب الخليل، يُظهرون عناداً أسطورياً في مواجهة كل إجراءات الهدم والملاحقة والطرد، فالنساء تكِدّ الى جانب الرجال في جلب المياه من بلدة مجاورة تبعد كيلومترات عدة عن الجبل، مستخدماتٍ الدواب من أجل سقاية البشر والمواشي والشجر، فيما يكابد الاطفال الطرق الوعرة للوصول الى المدارس في القرى البعيدة. لكنّ ما يجعل حياةَ الشقاء هذه أكثرَ شقاء، هو الملاحقات الاسرائيلية اليومية لهؤلاء الفلاحين البسطاء، الذين لا يَنْشُدون أكثر من السلام وتركهم يحيون حياة فيها من الشقاء ما يفيض عن قدرة البشر على التحمل. تقول الحاجة زليفة الجبور، إن المستوطنين يطلقون الكلاب على نساء الجبل وهن ينقلن المياه على الدواب لإرهابهن. اما الحاج محمد حسين الجبور، فيقول إن الجنود اقتلعوا العشرات من غِرَس الزيتون التي زرعها في أرضه، وأطلقوا الكلاب لتفتك بحماره الذي كان يستخدمه في نقل المياه لسقي الغرس والأغنام. وألهم كفاحُ سكان هذه الجبال من أجل البقاء، رئيسَ الحكومة الفلسطينية الدكتور سلام فياض إلى وَضْع برنامج خاص لدعم بقائهم أطلق عليه اسم «برنامج حراس الارض»، فقَدِمَ الى جبل أم نير وجبل سوسيا في «يوم الارض» في الثلاثين من الشهر الماضي للاحتفال معهم في إحياء هذا اليوم الوطني، الذي يعتبره الفلسطينيون رمزاً للنضال من أجل حماية الارض. وقال فياض ل «الحياة» إن مشروع الدعم يشمل توفير خدمات متنقلة ودعماً مالياً شهرياً لثمانية آلاف عائلة تعيش في تجمعات بدوية منتشرة في أنحاء الضفة الغربية، وتتعرض جميعها لملاحقة سلطات الاحتلال. وأضاف: «معروف أن سلطات الاحتلال تمنع أهالي هذه التجمعات من إقامة البيوت وتوفير خدمات الكهرباء والمياه والمدارس، لذلك قمنا بتوفير هذه الخدمات بصورة مرنة، بحيث نقدم لهم صهاريج لنقل المياه، وخلايا شمسية لتوليد الطاقة الكهربائية، وحافلات لنقل أطفالهم الى المدارس. وقال إنه أدرج دعم هذه العائلات على بنود موازنة السلطة الفلسطينية. وأضاف: «هؤلاء هم حرّاس الأرض، وواجبنا أن نوظف ما لدينا من موارد من أجل تعزيز بقائهم في وجه طوفان الاستيطان». وتقيم إسرائيل 120 مستوطنة في الضفة يعيش فيها نصف مليون مستوطن الى جانب 2.5 مواطن فلسطيني. ويتركز الجزء الاكبر من هؤلاء المستوطنين في مدينة القدس (200 ألف مستوطن). وتأتي مدينة الخليل في المرتبة الثانية لاستهداف المستوطنين، الذين استولوا على 65 في المئة من الحرم الإبراهيمي الشريف، وأقاموا اربع تجمعات استيطانية في قلب المدينة، هي: «أبراهام أبينو» التي تقع قرب الحرم الإبراهيمي الشريف، و «بيت رومانو»، وهي بؤرة أقيمت في مبنى مدرسة «أسامة بن منقذ»، و «بيت هداسا»، التي أقيمت في حي «الدبويا»، و «رمات يشاي»، التي أقيمت في حي «تل الرميدة». وأقامت السلطات الاسرائيلية مستوطنات عدة في محافظة الخليل، بينها مستوطنتان تتداخلان مع أحياء المدينة، هما: «كريات أربع» و «خارصينا». ويستهدف المشروع الاستيطاني خصوصاً المناطق الحيوية الأخرى، خصوصاً المناطق الحدودية، مثل الأغوار ونابلس شرقاً وسلفيت وقلقيلية غرباً. وأدى تواصل المشروع الاستيطاني في الضفة الى انهيار مشروع السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الذي انطلق في اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو عام 1993. وبدأت الحكومة الفلسطينية في الاعوام الاخيرة العمل في المناطق المهددة بالمصادَرة رغم القيود الاسرائيلية المفروضة على العمل في تلك المناطق. وقال فياض إن المهمة الاساسية لحكومته هي مواجهة المخطط الاسرائيلي الرامي الى إفراغ تلك الارض من سكانها وتحويلها الى مناطق استيطان. وأضاف ان حكومته عازمة على مواصلة البناء في تلك المناطق رغم قيام السلطات الاسرائيلية بهدم ما تبنيه من مدارس وطرق وغيرها. وأضاف: «الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي هو صراع بين إرادة الهدم وإرادة البناء. وتابع: «هم يهدمون ونحن نبني، وهذا ما سيحكم معادلة الصراع حتى تنتصر إرادة البناء على إرادة الهدم».