يبدو الأمر عجيباً حين تدير مؤشر التلفزيون في غرفة الفندق في مدينة صغيرة في ولاية هادئة من ولايات أميركا، فتجد هذا الكم الضخم والمقدار الهائل من الأخبار المسيسة والتحليلات المؤدلجة والحملات الممنهجة التي كنت تظن حتى أيام قليلة مضت أنها حكر على تلك البقعة من الكوكب المسماة المنطقة العربية. المنطقة العربية التي تشغل مقداراً غير قليل من التغطيات الإخبارية في القنوات الأميركية لم تعد فقط دماء ودواعش ومعاتيه يرتدون جلباب الدين وهو منهم بريء، بل أصبحت عاملاً مهماً ومعولاً رئيساً ضمن عوامل ومعاويل الشاشات الأميركية على طرفي نقيض: إما تقديم الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمحاكمة بغرض إقصائه أو تثبيت أقدامه في البيت الأبيض! وفي البيت الأبيض، وقبل نحو ثمانية أشهر، شن ترامب حملته العدائية الشهيرة ضد وسائل إعلام ومحطات تلفزيون أميركية واصفاً إياها بأن «مستوى التضليل وانعدام النزاهة فيها خارج السيطرة»، وذلك في إطار ما تناولته في حينها عن اتصالات قامت بها حملته الانتخابية بمسؤولين روس. في التوقيت ذاته، قامت قومة قنوات تلفزيونية أميركية، حتى تلك التي لم تُعرف يوماً بالدفاع عن المسلمين أو الميل إلى توضيح صورتهم الحقيقية، ضد الأمر التنفيذي المثير للجدل الذي أصدره حول حظر سفر مواطني سبع دول إسلامية إلى أميركا. شاشات أميركية كثيرة تبذل جهوداً حثيثة هذه الآونة للدفاع عن حقوق طالبي اللجوء والمهاجرين من 11 دولة تعتبرها إدارة ترامب «عالية الأخطار». (الدول ال11 هي: إيران والعراق وليبيا ومصر والسودان وسورية واليمن والصومال وكوريا الشمالية وجنوب السودان ومالي). أخبار يقرأها مذيعو النشرات على شاشات عدة لعل أبرزها «سي إن إن» بوجوه ملؤها الأسى والحزن لأولئك المدنيين الأبرياء الباحثين عن فرصة حياة بعيداً من خطر الحرب أو القتل أو التفجير، على رغم ذلك يجدون قرارات معادية أو أبواباً موصدة في أميركا. ويعقب الخبر تحليل ناري قوامه حقوق الإنسان وإطاره صب الغضب غير المباشر على قرار إدارة ترامب بفرض قيود هنا على سفر جنسيات بعينها إلى أميركا أو الإبقاء على حظر استقبال جنسيات 11 دولة كلاجئين أو مهاجرين. وبعد انتهاء التحليل، تعود الكاميرات إلى المذيعة والأسى يعتصر وجهها حزناً على هؤلاء الأبرياء الممنوعين من دخول بلادها بسبب قرارات الإدارة الأميركية برئاسة ترامب. ومن حزن يعتصر وجه المذيعة على المهاجرين وطالبي اللجوء المعلقين في سماء قرارات الحظر، إلى عجب وغضب يكتسيان وجه زميلها المذيع وهو يتناول «الأسئلة الصعبة التي لم يرد عليها ترامب بعد»! يسرد المذيع قائمة طويلة من الموضوعات: التأمين الصحي، السياسة الخارجية، التصويت غير القانوني، المحكمة العليا، المناخ، الكونغرس، المزاعم حول التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة. ويختتم المذيع القائمة ب «سنرى ماذا يحدث» وهي العبارة التي تشير «سي إن إن» إلى كونها المكون الرئيسي لسياسة الرئيس الأميركي في الرد أو بالأحرى عدم الرد على الأسئلة المهمة الموجهة له. «سي إن إن» التي يسميها ترامب في تغريداته «إف إن إن» (يشير حرف إف إلى Fake أي مزيف) - تجد نفسها، أو وضعت نفسها أو نصبت نفسها، في موقع العداء مع الرئيس الأميركي، ومعها عدد من القنوات ووسائل إعلام أميركية أخرى تقدم نفسها باعتبارها مدافعة عن حرية الإعلام ونزاهته وحياده وكونه سلطة رابعة لا يحق لأحد حتى لو كان الرئيس نفسه أن يؤثر فيه. لكنها في هذا السياق ليست منزهة تماماً عن عدم الحياد. فمثلاً على «سي إن إن» وبين نشرة وتحليل وآخر، يبث إعلان للبليونير الأميركي توم ستاير يحمل اسمه وتعريفاً به بأنه «مواطن أميركي» يتحدث فيه عن ضرورة تنسيق جهود المواطنين الأميركيين المحبين لبلدهم من أجل العمل على تقديم ترامب للمحاكمة بغرض خلعه وهو ما يعرف ب Impeachment وفي نهاية الإعلان تظهر عبارة تشير إلى أن دافع كلفة هذا الإعلان هو المواطن الذي يتحدث فيه، وهي الأرجح سابقة إعلامية وإعلانية. وتعد سابقة أيضاً أن ينخرط رئيس أميركي في حرب طويلة عميقة مع وسائل إعلام ومحطات محلية. وقد تحدث ترامب مراراً وتكراراً عن الحرب التي يتعرض لها من وسائل إعلام ومحطات تلفزيون، تارة واصفاً إياها بالمفبركة وأخرى بالكاذبة. أحدث هذه الاتهامات حصلت قبل أيام في حديقة البيت الأبيض حيث كان يدلي بتصريحات، فقال إن الإعلام الأميركي لا ينقل الأخبار المتعلقة به في شكل صحيح، وأنه يرسم صورة له مغايرة للحقيقة. وقال: «الإعلام يظهرني وقحاً وهذا عكس الحقيقة». الحقيقة التي تحملها «فوكس نيوز» هي الأخرى ربما لا تكون كاملة شافية. فهي تشير إلى حملة ستاير التلفزيونية التي تقول إنها تكلفت عشرة ملايين دولار أميركي من أجل خلع ترامب. وتنقل «فوكس» ما جاء في كلمات ستاير (بوجوه المذيعين الممتعضة أيضاً ولكن لأسباب تتناقض وأسباب «سي إن إن») من أن ترامب «مختل عقلياً مسلح بأسلحة نووية»، إضافة إلى اتهامه (ترامب) بعرقلة سير العدالة حين أقال مدير مكتب التحقيقات الاتحادي («إف بي آي») السابق جيمس كومي، وخرق الدستور، وتلقى أموالاً من حكومات أجنبية والتهديد بإغلاق مؤسسات إعلامية». ولا يفوت «فوكس نيوز» أن تشير إلى أن البليونير ستاير سبق وتبرع بأموال لهيلاري كلينتون وعضو مجلس النواب عن كاليفورنيا ماكسين ووترز والتي سبق وطالبت بخلع ترامب. ويزداد المشهد التلفزيوني الأميركي تعقيداً وتشابكاً حيث تبث شبكة «إن بي سي» خبراً خاصاً بها مفاده أن وزير الخارجية ريكس تيلرسون كان على وشك الاستقالة في الصيف الماضي وأنه وصف ترامب ب «الأحمق». لكن تيلرسون سارع بنفي نية الاستقالة. ثم اندفع ترامب مطالباً «إن بي سي» بالاعتذار لأميركا، وهو ما لم تفعله الشبكة. بل إنها وجدت منصات إعلامية مدافعة لها ومؤيدة لتوجهاتها «الخبرية» عن إدارة الرئيس الأميركي. الدق على الريموت ينقل المشاهد من محاولة خبرية لدق مسمار في نعش رئاسة ترامب إلى جهد تحليلي لحماية الرئيس الأميركي وسياساته وقراراته. يبدو المشهد غريباً وغير معتاد بخاصة لمتابع قادم من تلك البقعة من العالم التي طالما دأبت على النظر إلى الإعلام الأميركي باعتباره نموذجاً يحتذى في الحياد والنزاهة والشفافية والنأي بنفسه عن الانزلاق في تسييس الأخبار وأدلجة التحليلات ولو ظاهرياً. ولعل نتائج قياس الرأي الذي أجرته جامعة كوينيبيك الأميركية وبثت نتائجه «فويس أوف أميركا» تأتي ملخصة حال أميركا والأميركيين والرئيس الأميركي والإعلام الأميركي. فقد أظهر القياس الذي أجري في نهاية الصيف أن حرب ترامب على الإعلام نجحت في إقناع المواطنين الأميركيين بأن التغطية الإعلامية للرئيس ليست منصفة. الأخبار الطيبة للبيت الأبيض هي أن النسبة الأكبر من المستطلعين قالوا إنهم لا يوافقون على الطريقة التي يغطي بها الإعلام أخبار الرئيس (وإن كان بعضهم يرى أن الإعلام يتعامل مع الرئيس برفق زائد). ولكن تظل نتائج الاستطلاع مؤكدة أن الغالبية ترى أن الإعلام ينبغي أن يكون أكثر رفقاً ولطفاً مع الرئيس. في الوقت ذاته، فإن النسبة الأكبر تقول إنها لا توافق على الطريقة التي يتحدث بها ترامب عن الإعلام. تبدو النتائج مرتبكة؟ نعم؟ لماذا؟ لأن الواقع بالفعل مرتبك. ويخلص الاستطلاع إلى نتيجة منطقية، ألا وهي أن الحرب الرهيبة بين ترامب والإعلام أدت إلى نتيجة سلبية للطرفين: فقد تآكلت مصداقية الرئيس الأميركي لدى الناخب، ولكن في الوقت ذاته تآكلت مصداقية الإعلام الأميركي لدى المتابع. الطريف أن النصيحة التي يقدمها الاستطلاع لترامب هي أن ينتهج منهجاً أكثر مللاً، إن أراد بالفعل إلحاق الأذى بالإعلام. فإصرار ترامب على تواتر التغريدات المثيرة للجدل، وتوالي التصريحات المؤججة للسجال يملأ ساعات البث وعناوين الصحف أخباراً مقروءة ومثيرة، وإن توقف عن ذلك، فإن الخاسر الأكبر هو الإعلام.