بعد أيام من اللامبالاة الظاهرية وعدم التدخل المباشر صدر أخيراً موقف أميركي في ما يخص أزمة إقليم كردستان العراق. الموقف الذي جاء في بيان وزارة الخارجية الأميركية يدعو الحكومة العراقية إلى تقييد تحركاتها في المناطق المتنازع عليها مع إقليم كردستان، ويشدد على أن سيطرة قوات الحكومة المركزية عليها لا يعني تغيير حالتها فهي تبقى تحت التوصيف ذاته، أي مناطق متنازع عليها تنتظر حلاً دستورياً عراقياً وفق الخارجية الأميركية. عدم التدخل الأميركي في الأيام الماضية لم يكن يعني أن أميركا كانت خارج اللعبة تماماً، فهي كانت داعمة لتحركات رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي تلقي بثقلها تماماً خلفه في الساحة العراقية. لكن الموقف الأميركي الذي آثر عدم التدخل في الأيام الماضية أتى كفصل آخر من رقصة واشنطن مع الطرف الإيراني في العراق عندما تلتقي مصالحهما وتوجهاتهما في العراق، على رغم الحرب الكلامية التي يخوضانها في علاقاتهما الثنائية. إيران تدخلت مباشرة في الضغط على حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وتحديداً أسرة طالباني التي تقود أقوى أجنحة الاتحاد من أجل الخضوع لسلطة بغداد. وقد بانت في الأيام الماضية بعض التفاصيل حول الاتفاق الذي حصل بين الجنرال الإيراني قاسم سليماني وبافل طالباني نجل الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، والتي أدت إلى تسليم المواقع الكردية في كركوك الى القوات العراقية التي تحركت بأوامر من العبادي. وقد كان مشهد تصدر قادة الحشد الشعبي المدعومين من إيران عملية الدخول إلى مقر محافظة كركوك ومعهم ضباط جهاز مكافحة الإرهاب المدعوم من أميركا ذا دلالة واضحة ومهمة على التنسيق المشترك. وقد أدى هذا التنسيق الذي يقوده عراقياً العبادي إلى تحقيق أكبر تقدم ميداني لحكومة بغداد ضد حكومة إقليم كردستان منذ عام 2003. وإذا كان الحزب الكردي الاخر، الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة عائلة بارزاني، قد وجه اتهامات الخيانة للأطراف الكردية التي لم تقاتل في كركوك وحملها مسؤولية التراجع الكردي فإن قواته تراجعت أيضاً. تراجعت منسحبة من سنجار وزمار وربيعة وسهل نينوى أمام القوات العراقية وقوات ايزيدية ومسيحية تابعة للحشد الشعبي، بل إن الوضع بات قاب قوسين أو أدنى من تحقيق سيطرة كاملة للحكومة المركزية على معبر فيشخابور مع تركيا المهم جداً من حيث الموارد للحزب الديموقراطي. هنا لم يكن هناك اتفاق واضح، وليس هناك طرف لكي يتهم بالخيانة فهذه منطقة يسيطر عليها الحزب الديموقراطي. استخدمت القوات العراقية الزخم الذي حصلت عليه للاستمرار في التقدم الى بسط سيطرتها على كل المناطق المتنازع عليها دافعة بالكرد إلى حدود عام 2003 ليأتي الموقف الأميركي في بيان الخارجية. من الواضح أن الضوء الأخضر الأميركي الممنوح للعبادي يتوقف عند تلك الحدود، يبدأ البيان بالتحذير من الاشتباكات التي حدثت بين القوات العراقية والبيشمركة الكردية في منطقة التون كوبري بين كركوك واربيل. البيان صدر بعد انتهاء الاشتباكات وبعد أن باتت القوات العراقية متمركزة على تخوم مدينة أربيل ليذكر بحدود العملية وبأن قوات العبادي لا يجب أن تدخل إلى عاصمة إقليم كردستان. تلك إذاً هي الحدود الأميركية وهي متناغمة على ما يبدو مع لأهداف العبادي الذي حجم الكرد بعد اصرارهم على الاستفتاء. ولكن ما هي أهداف إيران؟ تتحرك إيران بدقة وباستخدام أدواتها المتعددة في الساحة العراقية. تمتلك أميركا قوة هائلة وتعتبر العراق جزءاً من مناطق نفوذها واهتمامها ومصالحها وأمنها القومي، لكنها لا تمتلك الأدوات الدقيقة للتأثير في الأحداث فيه. بإمكانها أن تدمر وأن تفشل أي اتفاق، بإمكانها أن تزيح رؤساء حكومات وتأتي بغيرهم في بغداد في مواسم الانتخابات. لكنها لا تستطيع أن تصنع اتفاقاً مثل الذي صنعته إيران باستخدام علاقاتها التاريخية مع القوى العراقية ونفوذها المباشر عليها. أهداف إيران لأربيل تكاد تكون واضحة. فبعد أن يستوعب الشارع الكردي الصدمة التي يشعر بها وبعد ان يحصل الاتحاد الوطني الكردستاني على المكاسب التي وعد بها ليرضي بها جمهوره وأهمها رواتب الموظفين الحكوميين في مناطقه، ستكون أربيل هي الهدف. على الأرجح لن يحصل التحرك نحو عاصمة اقليم كردستان بتمدد عسكري من التون كوبري بل سيكون سياسياً محسوباً بدقة أولاً، ممهداً لتحرك عسكري محتمل من أجل تمكين الاتحاد الوطني من السيطرة على أربيل وبالتالي الحصول على شرعية الحكومة المحلية الكردية وانتزاعها من الحزب الديموقراطي. الاتحاد الوطني أثبت أنه قوة صديقة لإيران لا تخالفها في المواقف الحاسمة، كما أنه صديق للولايات المتحدة أيضاً، وتلك صيغة مناسبة لمن يحكم العراق وكردستان. في المقابل، يقف حزب بارزاني بلا أصدقاء تقريباً، مع غضب داعميه التقليديين تركيا وأميركا من إصراره على إجراء استفتاء الانفصال عن العراق. لن يسلم الديموقراطي بسهولة طبعاً، لكنه الآن في وضع دفاعي صعب في مواجهة إرادات أقوى منه.