من أين تحصل على الخبر؟ يستطيع ذوو الشعر الأبيض أن يتذكروا بسهولة أن الإجابة كانت الراديو، تليه الجريدة والتلفزيون. وربما مال ذوو الشعر الرمادي إلى إجابة أكثر اختصاراً هي: الفضائيّات التي تسيّدت مشهديّة الخبر منذ تسعينات القرن العشرين، خصوصاً مع انفجار ظاهرة «سي آن آن» عالميّاً. أما أصحاب الشعر الأسود والوجه الغضّ، فسيسخرون من الإجابات السابقة، لأن الهاتف الذكي في أيديهم بات يسبق الجميع في نقل الخبر، خصوصاً عبر ال «سوشال ميديا». وعلى صفحاتها، يظهر الخبر بالصوت والصورة، إضافة إلى وجود إرشيف ضخم للخبر والتغطية والتحليل، موضوع في تصرفهم عبر موقع «يوتيوب» وما يشبهه. ومنذ الحراك الذي سُمّي «الربيع العربي» ولم تثبت الأيام أنه يحمل من الربيع سوى الحروف، يعرف الإعلاميون جيّداً أن صناعة الخبر عربيّاً دخلت في مرحلة بات فيها الجمهور مشاركاً في صناعة الخبر. وصار رائجاً القول إنه في إمكان رجل الشارع العربي أن يمسك بالخليوي ويلتقط بكاميرته الرقميّة ما يحدث أمام عينيه، بالصوت والصورة. وتالياً، فرض ذلك التغيير نفسه على أصحاب المهن الإعلاميّة عربيّاً، بمعنى أن تمكّنهم وتمرّسهم في صنع الخبر عبر الكاميرا، وتثبيته في أشرطة فيديو رقميّة، صار من أساسيّات المهن الإعلاميّة، خصوصاً الصحافة. واستطراداً، يتداول الإعلاميّون مصطلح «صحافة الفيديو» Video Journalism للإشارة إلى ذلك التحوّل ومُكوّناته ومحتوياته ومساراته. وغنيّ عن القول إن الإعلام العربي دخل إلى تلك المرحلة متأخّراً عن «نظيره» الغربي، وعلى رغم شيوع القول إن الأرض باتت قرية صغيرة، إلا أن التفاوتات ما زالت بارزة فيها، بل ربما تتسارع بقوّة متزايدة أيضاً. «مشروع التحرير لونغ - غوته» مع ملاحظة أنّ صحافة الفيديو صارت لها مكانة كبيرة في المجال الإعلامي العربي، خصوصاً الصحافة المعتمدة على المواقع الإلكترونيّة، نظّم مشروع «التحرير لونغ- غوته» في القاهرة، ورشة عن «صحافة الفيديو أخيراً. وجاء ذلك في سياق مشروع يسمّى «ميديا أكاديمي»، يهدف إلى تنمية مهارات الصحافيّين والإعلاميين وطلاب كليّات الإعلام. وتضمّن مشروع «التحرير...» مجموعة من ورش العمل عن تصوير الفيديو الرقمي والتكوين الفني للصور، وأحجام اللقطات، وحركات الكاميرا، وخطوات إنتاج التقارير المرئيّة- المسموعة، وأشكال الفيديو المختلفة، وكيفية إجراء عملية المونتاج، ومعايير اختيار اللقطات الأفضل لإنتاج تقارير مميّزة وغيرها. وقدّم الورشة نائب رئيس وحدة الإنتاج التلفزيوني والملتيميديا في جريدة «المصري اليوم» الزميل أبانوب عماد. وتناول سؤالاً عن كون أشرطة الفيديو الرقميّة المصورة بكاميرا الخليوي، فرضت نفسها على نشرات الأخبار إلى حدّ أنّها دفعت الصحافيّين إلى التفكير في الإمكانات التي تتيحها تلك الأدوات في إنتاج المحتوى الإعلامي. وثمة من سأل أيضاً عن مدى صحة النظر إلى صحافة الفيديو بوصفها تطوّراً لما يمكن تسميته «صحافة الهاتف المحمول» Journalism du Portable. وفي إجابته، لاحظ عماد أن «صحافة الهاتف المحمول» هي التي ظهرت في سياق تطوّر صحافة الفيديو، وليس العكس. وأرجع ذلك إلى التقّدم الهائل في جودة كاميرا الخليوي، وسرعة الحوادث التي حتّمت نشر كل ما يصوره الهاتف المحمول بصورة فوريّة، خصوصاً على شبكة ال «ويب». «استدعى ذلك أيضاً وجود وسيلة تجمع سرعة الوصول إلى الإنترنت مع الحفاظ على جودة الأشرطة سويّة... وتآزر ذلك مع تطوّر التطبيقات الرقميّة الخليويّة المختصة في المونتاج والتصوير، ما قرّب المسافة بين كاميرا الهاتف المحمول ونظيرتها الاحترافيّة. وينطبق وصف مماثل على التطبيقات الرقميّة المختصة بعمليات مونتاج أشرطة الفيديو، ك «كاين ماستر آي موفي»Kine Master Imovie الذي يعمل بنظام التشغيل «آندرويد»، ما يجعل الخليوي آلة متكاملة تستطيع إنجاز عمليات المونتاج المختلفة، بصورة سهلة تماماً». صحافي - طاقم عمل كامل تناول الزميل عماد أيضاً أبرز التحديات التي تقف أمام الصحافة أثناء تعاملها مع صحافة الفيديو، موضحاً أن الأمر يمثّل نوعاً من «الصراع المضمر بين إلحاح السرعة في التقاط الحدث من جهة، والرغبة في صنع شريط فيديو مرتفع الجودة من الجهة الثانية. وعزّزت تلك المنافسة الخفيّة قيمة شريط الفيديو الرقمي، ما جعل الإعلام ميّالاً إلى التعامل بجديّة أكثر مع صحافة الموبايل. ويجدر التنبّه أيضاً إلى أنها لا تقتصر على الحوادث الجارية، بل دخلت مجال صنع القصص المتلفزة والتعامل مع موضوعات لا تكون قيمتها مرتبطة بزمن معيّن وغيرها». وكذلك تناول عماد مسألة العنصر البشري ومدى تعلمه المهارات اللازمة في صحافة الفيديو. وشدّد على أنّ «تسير الصحافة حاضراً نحو الرقمي، ما يوجب على الصحافي أن يكتسب مهارات كثيرة لعل أبرزها القدرة على الإنتاج المتكامل للفيديو الرقمي، بداية من إعداد الفكرة، ومروراً بالتصوير وتسجيل الصوت والمونتاج. وتضاف تلك المهارات إلى إجادة الكتابة والتصوير الفوتوغرافي أيضاً. يمثّل الأمر توجهّاً عاماً في الصحافة حاضراً. وسجّلت «المصري اليوم» سبقاً في ذلك المجال بتأسيسها أول إدارة في مصر للرقمي، بمعنى أنها تجمع الموقع والميلتي ميديا و «سوشيال ميديا» معاً. وفي مزيد من التفاصيل، من المستطاع القول إنّ صحافة الفيديو هي إعلام يستند إلى قدرة الصحافي في تصوير الخبر وتفريغه كتابياً وتحريره وعمل مونتاج له، بمعنى أن يكون الصحافي هو المعد للفكرة ومنفذها ومصورها، إضافة إلى قيامه بأدوار المخرج والمنتج والمونتير وفنّي الإضاءة والصوت وغيرهما. بقول آخر، يصبح الصحافي المفرد طاقم عمل كامل؛ فتدّل عليه محتويات حقيبة الظهر المحمّلة بأدواته التقنيّة كلّها. وبالإنكليزية، يطلق على ذلك الوضع تسميّة «فريق الرجل الواحد» One Man Crew. صحافي الحاضر «يتحدّر» من جريدة السينما وتلفزة الحروب في الآونة الأخيرة، تزايد اهتمام المؤسّسات الإعلاميّة الكبرى بنموذج جديد في الإعلام يتمثّل في «صحافي الفيديو» (Video Journalist). وتطلق التسميّة على الصحافي الشامل المتعدّد المهارات الذي يستطيع إنجاز ما ينجزه فريق تلفزيوني كامل. ويختزل الصحافي بنفسه فريقاً متكاملاً قوامه المراسل والمصور والمؤلف والمونتير، ومسؤول الصوت وغيرهم. يعود اهتمام المؤسسات الكبرى بذلك الصحافي المستجدّ إلى أسباب عدّة. وعلى الصعيد المادي، تواجه غالبية المؤسّسات الإعلامية الكبرى تحدّيات ماليّة في السنوات الأخيرة، دفعتها إلى خفض نفقاتها قدر الإمكان. ومن الواضح أنّ وجود شخص يستطيع بمفرده صنع تقرير تلفزيوني يوفر على المؤسّسة المال اللازم لفريق عمل كامل. وعلى الصعيد المهني، يتمتّع صحافيو الفيديو بمرونة وسرعة في الحركة، بما يساعدهم في إنجاز تغطياتهم وتقاريرهم في وقت أقصر وبتكلفة أقل. وفي حالات كثيرة، يناسب النموذج أوضاعاً يتعامل فيها الاعلام مع مناطق نزاع قلاقل وحروب وغيرها. وعلى رغم حداثة ظهور ذلك النوع من الصحافيّين في العالم العربي، فإنه ليس جديداً كليّاً، بل يرجعه بعض المهتمّين إلى ستينات القرن العشرين. وآنذاك، كان مراسلو بعض المحطات التلفزيونية في الولاياتالمتحدة ينهضون بأعباء التصوير أيضاً. وكذلك الحال بالنسبة للجرائد السينمائيّة القديمة (كانت تعرض بالأبيض والأسود غالباً، ودائماً قبل الفيلم) التي كان مراسلوها أساساً هم مصوّرون يملكون حسّاً صحافيّاً. في المقابل، الأرجح أنّ البداية الحقيقية للإنتاج بأسلوب صحافة الفيديو، ترجع إلى مستهل الألفية الميلاديّة الثالثة. إذ يعتبر الصحافي التلفزيوني ميشيل روزنبلوم الرائد والمعلم الذي دفع بكثيرين لاحتراف صحافة الفيديو، كما اعتمدت عليه مؤسّسات تلفزيونيّة عريقة من وزن «هيئة الإذاعة البريطانيّة- بي بي سي» لتدريب طواقمها على العمل بهذا الأسلوب. كانت بداية روزنبلوم أثناء تغطيته بعض الحوادث المهمة في قطاع غزة. وآنذاك، كان يصحبه طاقم تلفزيوني تقليدي، إضافة إلى حيازته كاميرا فيديو من النوع المنزلي المنتشر في الأسواق في تلك الآونة. وحاول روزنبلوم أن يصور بتلك الكاميرا كل ما يصادفه، من دون أن يخطر بباله أن ما يفعله يملك أهمية كبيرة. وآنذاك، لم يكن ممكناً اعتباره مصوّراً محترفاً، وما كان لمحطة تلفزيونيّة أن تغامر بإذاعة لقطاته. وشاءت المصادفة أن تصاعد الصراع في الأراضي المحتلة على نحو لم يكن متوقّعاً. وبذا، صارت المادة المصورة التي عاد روزنبلوم إلى أميركا مرغوبة بشدّة بصرف النظر عن الجودة. وبيعت بعشرات آلاف الدولارات. مثّل الأمر مفاجأة لصاحبه، ما جعله يعيد حساباته، فصارت كاميرته لا تفارقه أبداً في تغطياته كلّها. العرب في استفاقة متأخرة بشأن عدسات الحريّة حاضراً، تصنع ثورة المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة كاميرات تعطي محتوى ذي جودة عالية للغاية، خصوصاً بالمقارنة مع كاميرا التلفزيون التقليديّة. ولا يزيد حجم كاميرا الفيديو الرقمي عن الكاميرا العادية، إضافة إلى أن تطوّر كاميرا الخليوي جعلها قادرةً على إنجاز كثير من مهمّات الكاميرا المحترفة. وغالباً ما تتميّز الكاميرات الرقميّة بسهولة الاستعمال، بل إن مستخدمها ما عادت تؤرقه كثيراً مسائل تقنيّة كضبط الإضاءة وزيادة الوضوح بقدر ما يشغله المحتوى بحد ذاته. لا بد من الإشارة إلى أنّ العالم العربي ومصر تحديداً، أصبح فيه من يعمل كصحافي فيديو، إضافة إلى احتضانها صحافة فيديو باتت تنتشر بتؤدة في المواقع الصحافيّة الإلكترونيّة والمحطات التلفزيونيّة الإخباريّة وغيرها. ليس شائعاً ولكن... في المقابل، لا يبدو مصطلح «صحافي فيديو»، شائعاً في الأوساط العامة، ما يشكل عقبة في وجه الإعلاميّين الراغبين في احتراف ذلك النوع من الصحافة المرئيّة- المسموعة. وحتى في مصر، لا توجد جهة مسؤولة عن صحافي الفيديو الذي يعمل غالباً بشكل حرّ وباستقلال عن المؤسّسات الكبرى، ولا نقابة تضمه إليها على غرار نقابة الصحافيّين. وكذلك لا تقبله نقابة السينمائيّين التي تضم في مصر من يعملون في السينما والتلفزيون. لم تعلن جهة ما استعدادها لأن تكون مسؤولة عن صحافي الفيديو، ولا حتى المركز الصحافي التابع ل «الهيئة العامة للاستعلامات» الذي يصدر تصاريح للصحافيّين الأجانب ويعينهم في إنجاز مهماتهم. ويعني ذلك أن فوضى حتميّة تسود ذلك المجال، خصوصاً مع التضييق الأمني ووضع العقبات أمام العمل الصحافي عموماً. وعلى رغم أن الحريّة هي الأصل في صحافة الفيديو، إلا أنّ ممتهنها لن يجد من يعطيه تصاريح لتغطياته الصحافيّة. ولا يتوقّع أن يحول ذلك دون انتشار صحافة الفيديو، لأن الحرية تطوّر طبيعي في الحياة الإنسانية، فلا يستطيع أحد إيقاف تدفقها، حتى لو «تسلّلت» كاميراتها من نوافذ ضيّقة أو أبواب خلفيّة!