كما كان منتظراً، استأثرت قضية العلاقة بين الدين والدولة بحيّز مهمّ من المناقشات السياسية والثقافية في تونس منذ الثورة، وتجاوزت مستوى النقاش أحياناً إلى تظاهرات وتظاهرات مضادة بين الذين يدعون إلى «الدولة الإسلامية» والذين يدعون إلى «الدولة اللائيكية». لكنّ بين الطرفين طيفاً واسعاً يرجح أنه يضم الغالبية من الشعب ليس مقتنعاً من الأصل بطرح القضية طرحاً ثنائياً على هذا الشكل. فاللائيكية تشير في الغالب إلى التجربة الفرنسية في العلمنة وهذه التجربة ليست الوحيدة ولا التجربة المرجعية للعالم كله وللبلدان ذات الخلفية الإسلامية تحديداً. وفيما يرى البعض أن طرح النقاش بهذه الكيفية من شأنه أن يدفع قطاعاً من الرأي العام إلى توضيح موقفه المتردد من حركات الإسلام السياسي التي بدأت تتخذ في المدة الأخيرة مواقف أقل مهادنة مما بدت عليه في أول وهلة، يرى البعض الآخر على العكس أن هذا الطرح يدفع هذه الحركات إلى مزيد التشدد ويمنحها أتباعاً جدداً ممن يظنون أنهم بذلك يدافعون عن الدين، باعتبار الخلط السائد بين قضية العلمانية وموقف اللادينية. ومما لا شك فيه أن الوضع المتأزم لا يساعد على توضيح الأمور، وأن وسائل الإعلام الكبرى الخاضعة لأجندات سياسية تسعى بدورها إلى توجيه القضية بما يخدم مصالحها ولا تعمل على تعميق النقاش ولا توضيح المفاهيم. وقد تمحور النقاش في الآونة الأخيرة حول الفصل الأول من الدستور التونسي الذي ينص حالياً على ما يأتي: «تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها». مع فصل آخر يشير من ضمن مواده إلى أن الدولة «تضمن حرية المعتقد». ولا يتضمن الدستور إشارة إلى قضية الشريعة، لكن من المعلوم أن مجلة «الأحوال الشخصية» تحظى بشعبية كبرى في تونس، وأن حركة «النهضة» التي تمثل الفصيل الأكبر في الإسلام السياسي التونسي التزمت رسمياً باحترامها وصرّحت أكثر من مرة أنها تعتبرها اجتهاداً إسلامياً وليست نصاً مخالفاً للإسلام، ما يعني أن قضايا مثل منع تعدد الزوجات ووجوب الطلاق أمام القاضي ومنع زواج الفتيات القاصرات تظل قضايا محسومة في تونس ولا يجادل فيها أحد من اللاعبين السياسيين الكبار. لكن البعض يقول إن الفرصة سانحة لرسم معالم دستور على مقاس غالبية دساتير البلدان الديموقراطية في العالم التي تعتبر أن قضية الدين لا تدار بالنصوص القانونية وإنما بالعرف وحرية الضمير الفردي. فمن أوروبا إلى الولاياتالمتحدة مروراً باليابان والهند، هناك تنصيص على علمانية الدولة. بيد أن يجدر اعتبار أن مراجعة الصياغة المتوازنة التي وضعها المؤسسون بعد الاستقلال قد يؤدي إلى التراجع لا إلى الدعم. ثم إن بعض الدول الديموقراطية مثل اليونان وإرلندا والدنمارك ما زالت إلى اليوم تشير في دساتيرها إلى دين قومي، وأن الدستور الإيطالي يشير إلى الفصل بين الدين والدولة في إطار المعاهدة (الكونكردا) بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية (ما يمنح هذه الكنيسة امتيازاً على الأديان الأخرى)، وأن الملكة في بريطانيا تعتبر راعية الكنيسة الأنغليكانية، الخ. فمن حق كل بلد أن يطوع مبدأ الفصل بين الدين والدولة (العلمانية) وفق تقاليده وظروفه. من جهة أخرى، لا توجد كنيسة في الإسلام السّني، فما هي الجهة التي يمكن أن يعهد إليها برعاية الشعائر الدينية إذا فصل الدين عن الدولة وهل نرضى أن تتولى حركات متشددة تعيين الأئمة وعزلهم كما حصل في الأسابيع الفائتة استغلالاً لضعف الدولة؟ أخيراً نشير إلى أن الدستور التونسي بامتناعه عن الإشارة إلى قضية الشريعة مهّد لفهم متطور لها، باعتبارها تحيل على التوجيهات الأخلاقية التي سنّها الإسلام، وليست الأحكام التفصيلية الواردة في الكتب الفقهية القديمة، فهذه الأحكام قد تكون بررتها طبيعة عصرها لكنها ليست ملزمة لمسلمي هذا العصر ولا تعدو أن تكون اجتهادات قديمة نقضتها اجتهادات أخرى اليوم. والرأي عندنا أن تأكيد حرية المعتقد لا يتطلب ضرورة إلغاء الفصل الأول من مشروع الدستور الجديد، والحلّ الأكثر واقعية هو تعزيز الفصل المتعلق بحرية المعتقد وتحديد معنى رعاية الدولة للشعائر الدينية. فالدولة الديموقراطية هي غير أشخاص حاكميها، لذلك فإن هذه الرعاية إدارية وليست سياسية، فلا يمكن أن تستغل لتسييس التدين ولا ينبغي للدولة أن تسمح لأحد بذلك. ولا ينطبق هذا الوضع على إدارة الشعائر الدينية فقط، فكل الجهاز الإداري للدولة ينبغي أن يكون محايداً سياسياً كي تتوفر فرص العمل الديموقراطي نفسها للجميع. وعلى الدولة أن تساعد في إقامة شعائر الأديان الأخرى من منطلق اعترافها بها وتفادي تركها مضطرة لطلب العون من دول أجنبية، مثل ترميم الكنائس أو توفير أجور للعاملين في خدمتها. وإذا ما اتفق التونسيون حول هذه المبادئ الكبرى فسيكون ذلك كافياً لبناء نظام حديث في مجال الحريات الشخصية من دون التيه في قضايا مصطلحية ينبغي أن تطرح في الندوات الفكرية وليس في مجلس مهمته الصياغة القانونية لدستور ما بعد الثورة.