قالت الحكمة السائرة في أوساط عربية عريضة، إنّّ الأنظمة «تبيع» قضية فلسطين، التي هي «قضية العرب المركزية»، فيما الشعوب تشتريها. والتحقُّق من بيع الأنظمة سهل، إذ انخفض عدد البلدان التي تحارب إسرائيل من سبعة في 1948، إلى ثلاثة في 1967، إلى اثنين في 1973، إلى واحد في 1982، ثم انحصرت الحروب مع الدولة العبرية بالفلسطينيين و «حزب الله» اللبناني. وكان ممكناً أيضاً أن يقام الدليل على بيع الأنظمة في شواهد عدة، منها الحروب الأهلية التي استجرّتها المقاومات، والمذابح والاضطهادات والتمييزات التي أنزلتها الأنظمة ب «الإخوة» الفلسطينيين. أمّا الشطر الثاني من الحكمة، فبدا عصيّاً على البرهان، لأن الشعوب قبل انتفاضتي تونس ومصر كانت بلا أصوات، بيد أن الثورات التي أطلقت أصواتها لا تبدو مصداقاً لتلك الحكمة، ذاك أن «القضية» لا تبدو «مركزية» في أيٍّ من البلدان التي ثارت والتي تثور. حتى مصر، الدولة الجارة لغزّة ولإسرائيل، لم يُسمع لها صوت في مسألة كامب ديفيد. ولئن سُمعت اعتراضات تتصل بصفقة الغاز أو بمعابر رفح، فإنها لم تكن أكثر من هوامش ملطَّفة على متون الكلام الثوري الجديد. والحقّ أن «مركزية» القضية الفلسطينية جزءٌ من النظام القديم، بمعناه العريض، وهو نظام يسقط، لا بل إنّ هذه «المركزية» ذاتها هي صناعة الأنظمة الساقطة التي أرادت بها تحويل الأنظار عن مركزها وعن المركزي في حياة مجتمعاتها. وهذا لا يلغي الإقرار بأن الأنظمة المذكورة لم تنجح إيديولوجيّاً كما نجحت في هذا المجال. وهو ما دلّنا عليه، كمثل غير حصري، غزو صدّام حسين الكويت مصحوباً بالدعاء الجماهيري لأنه «سيحرِّر فلسطين»، ذاك أن «القضية» صارت لُحْمَةَ الأيديولوجيا المشتركة بين الحاكم والمحكوم، والفضاءَ المشترك الذي حَلَّ محلّ الفضاء العامّ المفقود، عنها يستطيع أيٌّ كان أن يتكلم ويزاود، وباسمها يمارس الحاكم القمع، فيما يمارس المحكوم الصبر والتحمّل: النظام الذي يقهر شعبه عليه بفلسطين، وكذلك الدولة التي تطمع بجارتها الأصغر، والطائفة التي تنوي إخضاع طائفة ثانية. وفي المعنى هذا، غدت القضية، في ما تنمّ عنه من إجماع لفظي عابر لخلافات جوهرية، قضيةً ميّتة. أما العنصر الوحيد الحي فيها، فقابليّة استعمالها المؤذي للعقول وللأجساد. وقد يكفينا القول هنا، إن جماعة 14 آذار اللبنانية، والسلامُ علّة وجودها، تتحدّث عن «المواجهة مع إسرائيل» بنفس حماس «حزب الله»! والحال أن اللبنانيين كانوا قد شاهدوا أحد آخر الفصول الدراميّة لاستخدام «القضية». ذاك أنه ما إن بدأت الأجندة الوطنية والديموقراطية تتقدّم، في 2005، بكل القصور والتعثّر اللذين شاباها، حتى تولَّت حرب تموز 2006 تحويل الأجندة نحو القديم الشائخ. ولإنجاز غرض كهذا، لم يكن يلزم أكثر من كمين يقتل أربعة جنود ويأسر اثنين. وكم يبدو في زمن الانتفاضات الراهنة أن «القضية المركزية» لا تقدِّم ولا تؤخِّر، فلا يمارس الموقفُ من إسرائيل مطلقَ تأثير على مدينة درعا السورية، كما لا يحول دون احتجاز مير حسين موسوي ومهدي كرّوبي منعاً لانتفاضة في إيران «الممانَعة». وإنما بفعل هذا الجديد الصاعد، جاز التخوّف من محاولات محتملة لإعادة الأجندة القديمة إلى الصدارة. فهل، يا ترى، اندرجت عمليّة القدس الأخيرة في هذا الإطار؟ وهل يحصل على جبهة الجولان، غداً أو بعد غد، ما لم يحصل منذ 1974؟ ولا بأس هنا بشيء من المصارحة، ذاك أن «القضية المركزية» أسقطت آخر معاقلها مع انشطار غزّة في ظلّ «حماس»، بعد أسْلَمَتها التي أدرجتها في سياق لا تتعرّف فيه الوطنية الفلسطينية على نفسها. والحدث الفلسطيني اليوم، غدا نافراً ومضجراً، لأن الشعوب مهمومة بذاتها وبمآسيها وباحتمالات الانتصارات الكبرى والهزائم القاتلة. والأعمى وحده مَن لا يرى أن المناخ التونسي – المصري لا يربطه رابط بمناخ المقاومات والعنف، فيما المناخ الليبي – اليمني – البحريني مكتفٍ ذاتيّاً بمقاوماته وعنفه. أما تسريبات «ويكيليكس» اللبنانية، فلم تتحوّل فضيحة، بالضبط لأن محيط الانقسام اللبناني أعاد تدويرها قطرةً في مياهه. ما يتبقّى لنا ضرورةُ نصرة الفلسطينيين كمواطنين أفراد لا بد أن تكون لهم دولة، ذاك أنّ ردع إسرائيل عن تماديها وعن عجرفتها واجب أخلاقيّ وإنساني، مثلما هو شرط لاكتمال وطنية الأوطان العربية ولاستحقاقها الاحترام. وشرط ذلك تغليب مصالح الفلسطينيين على «قضية العرب المركزية». فهذه لم تقم إلاّ على حسابهم، ولم تُفد، في آخر التحليل، إلاّ إسرائيل.