يسود انطباع بأن الرواية العربية تستعيد بريقاً خبا مدة عقدين مع صعود الكتابة الحميمية المغرقة في الذاتية وانفجار المدونات المرتجلة على شبكة الإنترنت. وها هي الآن تتصدر «الأعمدة الثقافية» في عدد كبير من الصحف والمواقع الإلكترونية، وتستأثر بالدراسات الأدبية الأكاديمية منها والجماهيرية بعد أن كانت تتوزعها مع الشعر، وتحصد جوائز لم يعد منحها حكراً على المؤسسات الرسمية بل تجاوزتها إلى المؤسسات الخاصة، وها هي أخيراً تترجم بأعداد وافرة إلى لغات كثيرة. ويترافق ذلك مع بروز ظاهرتين جديدتين: اتساع دائرة إنتاج الرواية خارج مراكزها التقليدية - المشرق ومصر والمغرب العربي - إلى بلدان شبه الجزيرة، حيث برزت أسماء كثيرة بلغ بعضها درجة راقية من الإبداع، ثم تنوع ملحوظ في المسارات الفنية والاتجاهات الفكرية أغنى الرواية بعوالم جديدة، فبرزت أسماء جديدة متعددة المنشأ بدأت تزاحم الروائيين الأعلام مواقعهم. فكأننا نشهد اليوم حالة من «جيشان روائي»، وفق تعبير فيصل دراج، أفرز ظاهرة جديدة في سوق النشر هي ظاهرة: «الكتاب الجماهيري» أو بست سيللير التي رافقت بروز بعض الروايات في طبعتها العربية («تاكسي») أو المترجمة («عمارة يعقوبيان»). من الطبيعي أن تشهد الرواية تحولاً ملحوظاً أسوة بما شهدته المجتمعات العربية بأكملها، وأن تتكيف مع نظام العولمة بسيئاته الكثيرة وبعض حسناته التي من أهمها على الإطلاق إمكانات هائلة في التواصل عبر شبكة الإنترنت. غير أن التحول الحقيقي برأيي لا يتجلى في هذا الجيشان بل في تيارات جوفية تتشكل شيئاً فشيئاً تشير إليها أعمال أدبية تنبت من حيث لا يتوقعها أحد. إذ حين نتأمل موقع الروائي ضمن ما يسمى ب «الحقل الثقافي»، فإننا لا نلاحظ أي تحول ذي بال لجهة اندماجه في الدورة الاقتصادية ولا من حيث دوره المعنوي في الميدان الرمزي، أي إنتاج القيم الفكرية والاجتماعية والسياسية. ونقيس ذلك على عاملين: أولهما نسبة المقروئية (عدد القراء الفعلي)، وثانيهما تأثير الروائي في الحقل الاجتماعي. فازدهار السوق الروائية من حيث الإنتاج والصدى الإعلامي لم ينعكس على نسبة المقروئية. فالمقروئية تتراجع نسبياً في المنطقة العربية لأسباب مرتبطة بانهيار الطبقة الوسطى وتصاعد الأمية في الأوساط الشعبية وسيطرة ثقافة الصورة. وإن صمدت ففي ميدان الكتب الدينية، الجليل منها والرخيص، ولأسباب لا تخفى على أحد. لا شك أن بنية الجمهور القارئ قد تبدلت فلم تعد محصورة بالمهتمين في الشأن السياسي والأدبي، وأن حلقات أدبية تنشأ في أكثر من مكان ولا سيما في بلدان شبه الجزيرة، وأن عدداً من الروايات احتل مرتبة متميزة غير مسبوقة في المبيعات. غير أن هذه الظواهر تبقى هامشية ولا تؤثر عمقاً في بنية الجمهور القارئ. ومما يؤكد هذا الرأي أن حديث الرواية لم يتجاوز يوماً نطاق الصحف والمجلات الاختصاصية والمواقع الإلكترونية، فبقي غائباً أو شبه غائب عن وسائل الإعلام الجماهيرية المتمثلة في التلفزات والإذاعات المتزايدة يوماً عن يوم، والتي تمثل معياراً دقيقاً في حساب نسبة المقروئية. أما المسلسلات المتلفزة، ولها جمهورها الواسع، فنادراً ما تنطلق من نص روائي بل تأتي هي بنصها. وكذا يقال عن الأفلام السينمائية، التي لم تتناول روايات سابقة إلا في حالات نادرة (فيلم عمارة يعقوبيان المستخرج من الرواية التي تحمل العنوان نفسه). لم يحدث أي تبدل في موقع الروائي من الدورة الاقتصادية: لا يزال كما كان سابقاً عاجزاً عن أن يعتاش من أدبه ولا يزال يعتمد على وظيفة أو عمل مأجور لتأمين عيشه. وإن تيسر لبعضهم ريع، فمصدره من جوائز تكاثرت أو من حقوق نشر ناجمة عن ترجمات إلى لغات أجنبية، وأحياناً من منح تفرُغ للتأليف تهبها بعض الدوائر الثقافية والمؤسسات الاقتصادية الأجنبية. ولا تعويل على عمل أو أكثر يلقى إقبالاً جماهيرياً استثنائياً. ليس للرواية بعد موقع طبيعي في البنية الاقتصادية الوطنية. تستمد معظم وهجها من محفزات السوق المالية والسياسات الثقافية العربية (عبر الجوائز - الرسمية والخاصة المتزايدة)، وامتداداتها في السوق الغربية عبر الترجمة وما يرتبط بها من سياسات ثقافية تجاه العالم العربي وتجاه الجاليات العربية المستقرة في الغرب. ولعلنا لا نبلغ حد الشطط إذ نقرر أن سوق إنتاجها أقرب ما يكون إلى الاقتصاد الريعي النفطي المهيمن وهو المصدر الأساسي للجوائز الأدبية حالياً. أما دورها في إنتاج القيم فلا دليل على أنه احتل مواقع جديدة، على رغم الأضواء التي تسلط عليه حالياً. ولعله لم يجتذب إلا أضواء لم تعد تعثر على ميادين فكرية أخرى تنصب عليها. فالدراسات الفلسفية والجمالية والنفسانية والاجتماعية الميدانية شبه غائبة، والدراسات الاقتصادية مقصورة على بعض الحلقات الرسمية أو شبه الرسمية، أما السياسة منها فمتعذرة إلا على المستوى النظري العام. ومرد ذلك لا إلى عقم الفكر العربي (وإلّا لما تسنى لمواطنين عرب أن يبرزوا علمياً خارج أوطانهم)، بل إلى أوضاع اجتماعية وسياسية معوقة وإلى تدهور مريع في التكوين الثقافي من المدرسة الابتدائية حتى الدراسات العليا. في ظل هذا الغياب تسنى للرواية أن تجتذب اهتمام القراء بمعالجتها لمواضيع شبه محظورة على غيرها وتيسرت لها بمقدار بحكم طبيعتها التخييلية. ويكفي أن نستعرض بعجالة ثبت الروايات الصادرة في السنوات الأخيرة لنلمس الحيز الكبير الذي يحتله التاريخ إلى جانب مواضيع تقليدية مثل العدالة الاجتماعية والحريات الفردية والعامة. واللافت أن هذا التاريخ كثيراً ما يتناول أحداثاً قريبة العهد لا تتجاوز الاستقلال وأحياناً لم ينقض عليها أكثر من عقد، أي تكاد تكون معاصرة. إنها تسد ثغرة معرفية إذ تعوض عن دراسات تاريخية موضوعية مفتقدة قام مقامها التاريخ الرسمي المؤدلج بل الملفق أحياناً. والحقيقة أن الرواية، حين تنحو هذا المنحى، لا تعبر عن إبداع خاص، فنياً كان أم معرفياً، بل تستأنف اتجاهاً نشأ مع جيل الستينات وكوّن إضافة مهمة في الميدان الروائي. ينقشع «الجيشان الروائي» الحالي في هذه الحالة عن حصيلة إبداعية لا تتناسب مع الانطباع السريع المتأتي من الوفرة في الإنتاج ومن الصدى الإعلامي المرافق له، ولا تتجلى غالباً في الأعمال المتداولة في الإعلام بل في حراك يؤسس لآفاق جديدة تشي بها مسارب تتكون وتترسخ بعيداً من الأضواء تحت الصورة المعلنة. يتجلّى الحراك في نمط الكتابة وبوصف أدق في الوعي الذي تعبر عنه. كانت في الستينات وما تلاها تصدر عن التزام بمشروع جماعي مبني على نظريات عقائدية جليلة ولكنها في أكثر حالاتها مزيج من ذهنية تفتقر إلى وعي ملموس بالواقع ومن انفعالية تحركها الرغبة النبيلة إلى التغيير من دون إدراك شروطه وأواليته. ثم انقلبت بعد انهيار المشروع الجماعي إلى انكفاء على الأحاسيس الفردية أو إلى إغراق في البحث عن شكل جديد. أما اليوم فتجرب مسلكاً آخر ينأى عن الذهنية المؤدلجة الفجة ويحاول أن يتجنّب الأحاسيس الفردية الآنية التي لا تتجاوز حد «الإفضاء» المباشر (الذي جعل منه المنفلوطي معياراً وحيداً)، ليعبّر عن واقع معاش وعن تجربة شخصية بوعي فردي. ومهما كان قدر النجاح المتاح لكل كاتب يسلك هذا المسلك، فإن هذه المقاربة الجديدة تبشر بأدب آخر، أشد التصاقاً بالإنسان الفرد ووعيه واقَعه بما يحمله من صغائر وفجائع وأحلام. فالأدب سرديات كبرى إلى جانب سرديات صغرى تتناول أفراداً بعينهم. أما الآفاق الجديدة فتظهر ملامحها في اتجاهين مختلفين لم يصلا بعد إلى الجمهور الواسع من القرّاء ولا إلى اللجان القائمة على توزيع الجوائز. يتبلور الاتجاه الأول حول محور اسميه موقتاً «الذات الفاعلة». محور يبدو في الظاهر وكأنه استكمال لتيار السيرة الذاتية التي لم تتجاوز في الأدب العربي غالباً حد المذكرات التي تركز على إنجاز شخصي متميز في سياق تاريخي محدد (من «مذكرات جورجي زيدان» إلى «غربة الراعي» لإحسان عباس) أو تنحو منحى الاعترافات الجريئة إلى حد الاستفزاز (شأن «الخبز الحافي» لمحمد شكري). غير أنه في الواقع غريب عن هذا التيار، لأنه لا يرتاح إلى تدوين الذات ولا إلى تمجيدها أو الاستفزاز بها. يسكنه أسى هشاشة الوجود العربي فرداً وجماعة، فينبري للذات يواجهها بصدق يصل حد العنف ليعري مكوناتها الاجتماعية والعائلية والثقافية وآليات نشاطاتها العاطفية والفكرية، الجسدية والروحية، التخييلية والعملية. يخضعها لعملية معرفية صارمة ليلتمس ركيزة توفر لها القدرة على الفعل في سياقها التاريخي المحدد. لا ينكفئ هذا الوعى على أنا فردية مستوحدة، بل يتمثل تراث الستينات من حث التزامه بالقضايا الكبرى ورغبته الصريحة في التغيير، ليؤسس الفعل على ذات فردية تكون نواة لذوات أخرى عليها يقوم المجتمع الجديد. أرى هذا الحراك في أعمال ظهرت في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، شأن «ذاكرة للنسيان» لمحمود درويش مثلاً (وربما قبلها «متشائل» إميل حبيبي)، وتتابعت في بدايات القرن، مثل «الضوء الأزرق» لحسين البرغوثي. وقد نرى إرهاصاتها في أعمال ترقى لأربعينات شأن كتاب «حرف الحاء» لبدر ديب. وتتمثل في السنوات الأخيرة بأعمال ربما كان من أهمها «مرايا فرانكشتاين» لعباس بيضون. و «قلب مفتوح» لعبده وازن. وعندي أن هذا التيار يستعيد جوهر تيار الرواية التكوينية في إطار جديد، ويغنيه بوعي اجتماعي عبّر عنه تيار الستينات، ويسكبه في شكل مناسب فيه عناصر من كتابة الذات ليوظفه في تصور عالم جديد تحركة أنا فردية فاعلة. واللافت أن تيار الذات الفاعلة - ولا بد من عودة إليه - نلتقيه غالباً عند أهل الشعر. أما الاتجاه الثاني فيبدو للوهلة الأولى وكأنه بريء من كل هاجس اجتماعي أو فردي. يمارس الكتابة بعفوية وكأنها ضرورة حياتية كما التنفس أو الغذاء. لذلك أميل إلى تسميتها بتيّار «الرواية فعل وجود». رغب ظاهرياً عن الموقف النضالي التحديثي معتبراً بما آل إليه جيل المناضلين، ولم تغوه الجماليات المجردة ولم يطمئن إلى استعراض الذات فمارس الرواية ليحيا حيوات كان من المحتمل أن تكون - بما أن ما يسمى الواقع إنما هو احتمال من بين احتمالات كثيرة لم تتم - أو حيوات بقيت طي الكتمان فأعلنها على الملأ. عاد إلى الماضي القريب أو الأقل قرباً وإلى الاحتمالات التي فات أوانها ليخبر عنها بواقعية مدهشة في بعض الأحيان. فإذا به يملأ حياته بحيوات تعوضه عن شهرة لا يرغب فيها، وبمتعة فنية تعوضه عن ميتافيزيقيات النضال والروحانيات. هذا ما يستشعره القارئ في أعمال ربيع جابر أو منتصر القفاش. وهي، على كل حال وأياً كان مبعثها، إعادة طرح جذرية لماهية الرواية، ولا شك في أنها ستؤثر في مسار الرواية العربية في شكل من الأشكال، أقله لأنها تهبها بعض استقلاليتها كفن أدبي تجاه الواقع المعاش بهمومه الرازحة، وتخرجها من وهم التأثير المباشر - والمباشر فقط - في تغيير الواقع، فالواقع أصلب من أن ينصاع لكلمة عابرة مهما سمت. وربما كان في احترام طبيعة الأدب بعد فترة من التوظيف الإقحامي بداية الطريق لمراعاة استقلالية الميادين الحياتية، من سياسة واقتصاد ودين وثقافة - أسوة بالميادين العلمية التي لم تتطور إلا عندما حدّدت حيزها وأداتها من دون أن تفصل بينها. وقد تكون الديموقراطية الحقيقية في التمييز بين الميادين: ثوابت أساسية يجمع عليها المواطنون كافة ويترك للفرد ميدانه الخاص وللتنظيمات السياسية والمدنية مجالاً كافياً للمشاركة في توجيه المجتمع. بهذا المعنى تنبئ هذه الاتجاهات الروائية بحراك جديد يعتمل المجتمعات العربية من علاماته انتفاضات شعبي تونس ومصر وما يليهما، مهما كان مآلهما على المدى المنظور. * ناقد سوري يدرّس في باريس