عندما تأسس «فايسبوك» عام 2003، لم يكن أحد يتخيل أن يصبح بهذه الضخامة ويدخل إلى تفاصيل حياتنا اليومية، خصوصاً أنه لم يكن «الابتكار» الوحيد من نوعه آنذاك. إلا أن أحداً لا يمكنه إنكار حجم النجاح الذي وصل إليه العملاق الأزرق، إذ أصبح يتحكم بثلاثة من أكثر التطبيقات استخداماً في العالم، كما يمكن وضعه على عرش وسائل التواصل بكل جدارة ومن دون أي منافس. والحق، أن هذا النجاح ساهم في إنجاح الكثير من المشاريع المرتبطة به مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، إلا أنه ساهم أيضاً في ضرب الكثير من القطاعات التي كانت راسخة منذ آلاف السنوات. ولعل قطاعَي الإعلام والإعلان، من أكثر القطاعات التي تضررت و «استُغلت» من دخول «فايسبوك» إلى حياتنا. ولا يمكن وصف المعضلة التي وقعت فيها كل مؤسسات قطاع الإعلام نتيجة دخول «فايسبوك» فمن الناحية الأولى، أظهرت أبحاث عدة أن معظم المستخدمين على وسائل التواصل الاجتماعي عموماً، و «فايسبوك» على وجه الخصوص يحصلون على الأخبار من هذه المنصات. ونظراً إلى أن طريقة عرض الموقع لما يتلقاه المستخدم تعتمد على خوارزمية تُظهر ما يفضل المستخدم أن يُشاهد، بالتالي، فإن «فايسبوك» لا يُقدم فعلياً الأخبار الحقيقية كما هي، بل يتم تحويرها عن قصد أو غير قصد لتتلاءم مع ذوق المشاهد وميوله. وتأتي أزمة الأخبار الكاذبة لتضيف على هذه الأزمة، خصوصاً بعد اكتشاف حسابات عدة مرتبطة بروسيا بثت أخباراً كاذبة على «فايسبوك» بهدف إثارة الانقسام في المجتمع الأميركي قبل الانتخابات الأميركية التي أسفرت عن فوز «مفاجئ» لدونالد ترامب وبعدها. ناهيك عن آلاف المواقع التي تتخصص في الأخبار الكاذبة على هذه المنصة، ما يجعل المستخدم ضعيفاً أمام تلقي هذه الأخبار، ومن دون أي آلية فورية تحميه منها. ولم تقتصر هذه الأزمة على الانتخابات الرئاسية الأميركية على رغم الضجة التي أثارتها في الوسط السياسي العالمي، إلا أن حادثة إطلاق النار التي شهدتها مدينة لاس فيغاس وأسفرت عن 59 قتيلاً، أعادت هذا الخطاب إلى الواجهة. إذ أعاد «فايسبوك» الخطأ ذاته، وساعدت الخوارزميات في انتشار أخبار كاذبة عن مطلق النار، كان أبرزها اتهام غاري دانلي وتعميم صوره على وسائل التواصل وخصوصاً «فايسبوك»، بوصفه مطلق النار ما أدى إلى وصول تهديدات بالقتل له ولعائلته، على رغم أن القاتل الحقيقي ستيفن بادوك قتل نفسه خلال الحادثة. هذه الأخبار، والكثير من الأخبار التي سترد لاحقاً بالتأكيد، اعتذر وسيعتذر عنها «فايسبوك» وسيحاول «ابتكار» حلول جديدة لها، تماماً كالحل الذي لم يصل إلى نتيجة تُذكر، والقاضي بتكليف المستخدمين بالتبليغ عن «المحتوى الكاذب» الذي يجدونه على منصاته. والمشكلة لا تقف عند حد الأخبار الكاذبة، إذ إن مشكلة وسائل الإعلام أعمق بكثير من هذه الأزمة. فوسائل التواصل الاجتماعي عموماً تحاول قدر الإمكان إبقاء المستخدم على منصتها وعدم تحويله إلى أي منصة أخرى، ما يُضعف أداء المواقع الإخبارية والإقبال عليها، وتالياً تصبح الأخيرة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بهذه المنصات التي لا تدر المال عليها، بل على العكس تنفق هذه المؤسسات الأموال الطائلة للوصول إلى المستخدمين. وهذه الأزمة التي لا حل لها على المدى المنظور، تُظهر ضعف المؤسسات الإعلامية أمام عملاق وسائل التواصل. فإذا نظرنا إلى آخر تحديث ل «فايسبوك» على «ويندوز 10»، سنجد أن داخل التطبيق ذاته، يوجد متصفح خاص ب «فايسبوك»، ما ينفي أي حاجة إلى الانتقال إلى أي موقع، بالتالي فإن المستخدم يبقى على الموقع الأزرق من دون أن ينتقل إلى موقع المؤسسة الإخبارية. وتؤثر هذه الطريقة في شكل كبير في أرباح المؤسسات الإعلامية واستمراريتها، وحتى في طريقة عرضها الأخبار. فالمؤسسات غالباً ما تقوم بتحليل مشاهدة المستخدم على مواقعها لتوجيه سياستها الإخبارية في الشكل الذي يطلبه المستخدم، مع الحفاظ على «المهنية» ذاتها. في حين أن التحديث الذي فرضه «فايسبوك»، يمنع المؤسسات من القيام بهذا الأمر لأن البيانات تذهب مباشرة إلى «فايسبوك» ليقوم بعدها بإرسالها إلى المؤسسات، وهو ما يعني أن المؤسسات أصبحت مرتبطة أكثر بهذا الموقع. وتُلاحظ هذه المؤسسات هذا الأثر، إلا أنها تقف عاجزة أمام العملاق الأزرق، فهي لا تستطيع مقاومة بلايين المستخدمين الموجودين على «فايسبوك» أولاً، كما أنها لا تستطيع أتخاذ قرار إلغاء وجودها عليه. وأكثر من ذلك، تجد نفسها مضطرة إلى دفع آلاف الدولارات لهذه المنصة لكي تسمح لها بأن تصل إلى مستخدميها، مع علمها المسبق أن «فايسبوك» يقوم باستغلالها شر استغلال. عملياً، تقوم هذه المؤسسات وغيرها، بالترويج ل «فايسبوك»، فهذا الموقع يدور عملياً حول المحتوى في شكل رئيس، وهو في حاجة إلى هذا المحتوى للاستمرار خصوصاً أنه لا يقدم أي خدمة أخرى. وتقوم هذه المؤسسات بتقديم المحتوى بصورة مجانية ل «فايسبوك» على رغم أنها تتكلف على انتاجه أكلافاً ضخمة. وبعد حصوله على هذا المحتوى، يُقدم «فايسبوك» للمؤسسات امكانية إيصاله إلى مستخدميه، وفي حال أرادت أن تصل إلى مستخدمين إضافيين عليها الدفع لقاء ذلك. ولكن ماذا لو قررت المؤسسات إيقاف وجودها على هذه المنصات؟ من المؤكد أن الكثير من المؤسسات لن تستطيع الاستمرار فترات طويلة، إذ غالباً ما تحصل المواقع الإخبارية الإلكترونية على القراء من وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً مع زيادة عدد هذه المواقع ما يجعل من عملية قصد موقعها الشخصي مباشرة من قبل المستخدم أمراً شبه مستحيل. وفي حال فقدت المواقع قراءها، فإنها بالتالي تفقد الإعلانات التي تعتبر مصدر تمويلها الرئيس، وهو ما يعني حكماً التوقف عن العمل. والحال، أن المواقع والمؤسسات الإخبارية الإلكترونية أمام مأزق لا يمكنها الفرار منه، إذ لا تستطيع الاستمرار مع الموقع بهذه الصيغة كما لا تستطيع الاستغناء عنه أيضاً. المستخدم هو الحلقة الأضعف ولكن استغلال «فايسبوك» لا يقف عند هذا الحد، فالمستخدم فعلياً هو الطرف المستغل في شكل أكبر، فالمؤسسات تستطيع تحصيل بعض الأرباح من خلال الإعلانات التي تبثها على موقعها، كما أن «فايسبوك» يحقق أرباحاً طائلة من الإعلانات التي يوجهها إلى المستخدم، في حين أن الأخير دائماً هو المتلقي ولا يحصل على أي ربح من هذه المعادلة، بل على العكس، يعمل «فايسبوك» باستمرار على خطف بيانات المستخدمين لتوجيه الإعلانات المخصصة لهم، وهو ما يدفعه إلى إبقاء المستخدم لأطول وقت ممكن على منصته. ويقوم «فايسبوك» بجمع المعلومات والبيانات الشخصية للمستخدمين الذين يفتحون حسابات لديهم، كما يجمع كل ما يبدي المستخدم إعجابه به على المنصة، من صفحات أو نشاطات أو غيرها، ليترجم هذه البيانات إلى إعلانات يعاد توجيهها إلى المستخدم بهدف دفعه إلى الشراء. وبالنظر إلى حجم الاستغلال الذي يتعرض له المستخدم على «فايسبوك» من خلال بياناته الشخصية وقدرة هذه البيانات على التأثير، كلّف موقع «بيزنيس إنسايدر» شركات إعلانات باحتساب كلفة استهداف المستخدمين من خلال إعلانات «فايسبوك» وكان الموضوع الرئيس هو استهداف الأشخاص المترددين في التصويت خلال الانتخابات الأميركية في ولايتي ميشيغان وويسكونسون، وهي الولايات المتأرجحة التي أمنت الفوز لترامب، والتي استهدفتها الإعلانات الروسية. وأشار نائب الرئيس التنفيذي لقسم التسويق والمحتوى في شركة «ميدياسوسيايتس» بين كونز، إلى أن الأساس يكمن في تحديد المترددين بالتصويت بدقة في هذه الولايات باستعمال وسائل احصائية متوافرة بصورة قانونية، وبعد هذه العملية «لن تكون الكلفة كبيرة لبث إعلانات تهدف إلى قلب آرائهم». وبنت الشركة تقديرها للكلفة بناءً على قاعدة تسويقية تعتبر أن 1 من أصل 2000 شخص سيقوم بالضغط على الإعلان لرؤية الإعلان وهو ما يصل إلى 0.05 في المئة. والحال أن الكلفة لاستهداف هؤلاء الأشخاص وصلت في ولاية ميشيغان إلى 42800 دولار لدفع 10700 ناخب إلى تحديد رأيهم نحو جهة معينة. وهو ما يعني أن كلفة الناخب الواحد تصل إلى 4 دولارات. أما في ويسكانسون، فإن الكلفة تصل إلى 90992 دولاراً لتحديد رأي 22748 ناخب. والكلفة هنا أيضاً 4 دولارات للناخب. والمثير للسخرية، أن المعلومات التي استعانت بها هذه الشركات، حصلت عليها من المستخدمين أنفسهم طوعاً ومن دون أي تحايل، على غرار الفئة العمرية ومكان السكن والآراء السياسية، والاهتمامات، وهي المعلومات التي يقوم المستخدم بإعطائها عند فتح الحساب، كما أن المعلومات الأخرى التي يجمعها «فايسبوك» تجعل الفئة المستهدفة دقيقة جداً لدرجة أنه يمكنه تحديد ما إذا كان الناخب متأكد من المرشح الذي يريد انتخابه أو لا. في المحصلة، لا يمكن وقف استغلال «فايسبوك» من دون التنبه إلى أنه موقع مجاني ويحصل على أرباحه من استغلال هذه البيانات، كما أن هذه البيانات مقدمة من قبل المستخدمين أنفسهم لقاء استعمال هذه المنصة، لذا فمن المنطقي أن يتحجج الموقع بأنه يُقدم خدمة لقاء الحصول على هذه البيانات، إلا أن حجم هذه البيانات وقدرته على الاستفادة منها تفوق بأشواط حجم استفادة المستخدم أو الشركات من هذه المنصة. ولكن هل باليد حيلة؟