نزعت الثورة المصرية فتيل كثير من القنابل الموقوتة التي أرّقت سنوات طويلة فئات من الشعب المصري. ومن الأمثلة على ذلك تدني مستوى الرعاية الصحية (وانعدامها أحياناً)، وتمركُز مؤسسات علاج كثير من الأمراض المزمِنة في عدد محدود من المحافظات، والتمييز في الحصول على الرعاية الصحية بين أهل المدن وأهل الريف، وبين الفقراء والأغنياء، وحتى بين الرجل والمرأة أحياناً. ومع نجاح «ثورة 25 يناير»، حدثت حال من الحراك في مجالات مختلفة. وفُتِح حوار حول كثير من القضايا التي ظلت طويلاً ضمن المسكوت عنه. في هذا السياق، عقدت «مكتبة الإسكندرية» أخيراً ندوة في «بيت السنّاري» في القاهرة لمناقشة مشاكل القطاع الصحي المصري، ومحاولة وضع تصور لحلها. معروف أن «بيت السناري» شهد إنجاز كتاب «وصف مصر» على يد علماء الحملة الفرنسية على مصر في مستهل القرن التاسع عشر، وقد تحوّل أخيراً مركزاً ثقافياً وعلمياً، يتبع «مكتبة الإسكندرية». الحق في الصحة في لقاء مع «الحياة» على هامش هذه الندوة، أكّد خبير السياسات الصحية المصري الدكتور علاء غنّام ل «الحياة» أنه «لا بد من اتفاق مجتمعي على المبادئ العامة التي تحكم النظام الصحي في المستقبل، مُشدّداً على أهمية اعتباره وسيلة لتحسين صحة المواطن المصري من خلال تحسين كفاءة تجسيد حقه في الصحة. ورأى غنّام أن الوضع الصحي الحالي في مصر يعاني من افتقاره إلى مبادئ أخلاقية عامة، ما أدى إلى تفاوت في الرعاية الصحية للمواطنين بين الريف والمدينة، والغني والفقير، والطفل والشباب وكبار السن، وأحياناً المرأة بخاصة أثناء الحمل والولادة وما بعد الولادة. وقال غنّام: «لدينا نظام للتأمين الصحي في مصر منذ عام 1964، لكنه لم يشمل عملياً سوى نصف المصريين. ويشكّل الفلاحون والعمال غالبية الذين لا يشملهم التأمين، على رغم أنهم أحق الناس به. ويتناقض هذا التفاوت مع ما ينص عليه دستور البلاد والاتفاقيات الدولية التي وقعتها مصر، من تأكيد حق المواطنين جميعاً في الرعاية الصحية، من دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو السن أو الجنس أو الوضع الاجتماعي أو الثقافي». وتحدّث غنّام عن نظام العلاج على نفقة الدولة الذي يفترض أنه يغطي الفئات التي لا يشملها التأمين الصحي، مشيراً إلى أن أكثر من استفاد من هذا النظام هم القادرون مادياً، وذلك على حساب الفقراء. واستشهد بحوادث مثل سفر زوجة وزير الصحة السابق حاتم الجبلي للعلاج خارج مصر على نفقة الدولة، وكذلك الحال مع وزير المال السابق يوسف بطرس غالي الذي أجرى جراحة في عينيه تكلفت أكثر من مليون جنيه. وحدّد غنّام مبادئ عامة طلب الاتفاق عليها عبر حوار مجتمعي واسع للنظام الصحي الجديد، تتمثّل في التضامن بين شرائح المجتمع، والإنصاف بمعنى انعدام التمييز، إضافة إلى العدالة الاجتماعية في تحديد أجور للعاملين في القطاع الصحي، وتوحيد هيكل تقديم الرعاية الصحية. وبالنسبة للنقطة الأخيرة، ذكّر غنّام بوجود 29 جهة لتقديم الخدمات الصحية، تشمل المستشفيات الحكومية والأهلية والخاصة والملحقة بدور العبادة. واقترح وضع نظام للتأمين الصحي بشروط تمويل عادلة. وقال: «40 في المئة من السكان غير قادرين على الدفع، ولا بد من تمويل نفقات خدماتهم صحياً من الموازنة العامة للدولة، لضمان حصولهم على هذه الخدمات على قدم المساواة مع بقية شرائح المجتمع». في مهب التجديد وفي لقاء مع «الحياة» أيضاً، رأى الدكتور إيهاب سيفين، اختصاصي الأنف والأذن في معهد السمع والكلام في القاهرة، أن مشكلة الخدمات الصحية في مصر تتوزّع على ثلاثة محاور. وأوضح أن المحور الأول يتمثّل في إيلاء اهتمام كافٍ بتدريب الأطباء، إذ أن انخفاض جودة الرعاية الصحية في بعض المناطق، مرتبط بنقص خبرة الأطباء العاملين فيها. ويشمل المحور الثاني الاهتمام بالحوافز المادية للأطباء، إذ لا يعقل أن يكون راتب الاختصاصي الحاصل على الدكتوراه، في حدود 100 دولار شهرياً، في حين أن أحد مساعدي وزير الصحة السابق كان يحصل على نحو 50 ألف دولار شهرياً! وأشار سيفين إلى أن المحوّر الثالث يتجسّد في حُسن إدارة موارد الصحة، إذ ليس صحيحاً أن نقص الموارد في قطاع الصحة هو المسؤول دائماً عن انخفاض جودة خدماتها، بل أن سوء الإدارة له اليد الطولى في هذا الأمر. واقترح سيفين توجيه كوادر في المنشآت الصحية إلى الانخراط في دراسات متخصصة عن برامج الإدارة صحياً. وعلّق على مسألة نظام التأمين الصحي قائلاً: «أرى أن لا نقوم بتأليف نظام صحي جديد، علينا أن نأخذ بما هو مُطبّق في دول متقدمة، سواء في أميركا أم أوروبا، مع تطويعه ليتناسب مع المجتمع المصري». وفي السياق عينه، أشار الهامي الميرغني، وهو خبير في الاقتصاديات الصحية، إلى أن اقتصاديات الصحة في مصر هي الأساس في تطوير الإدارة الصحية. واعتبر أن عدم الرضا عن حال الخدمات الصحية في مصر حاضراً، ينبع من مشاكل في التمويل. وقال: «الإنفاق الصحي في مصر وصل في 2010، إلى 15 بليون جنيه، ما يمثل 4,2 في المئة من الإنفاق الحكومي. ولا بد من ربط هذه النسبة بعناصر مثل التضخّم وارتفاع الأسعار وزيادة السكان، وعندها يظهر أن الإنفاق الصحي يتراجع فعلياً، على رغم زيادته نقدياً. ويكفي أن نذكر أن الإنفاق الصحي يمثل 1,3 في المئة من الناتج المحلي المصري وهو ضئيل بالمقارنة ببعض الدول العربية. إذ نجد أن معدل الإنفاق الصحي بالنسبة للناتج المحلي هو 9,8 في المئة في الأردن و3,9 في السعودية و11,6 في لبنان». وأشار إلى أن الإنفاق الصحي على سكان الريف، الذين يمثلون 57 في المئة من إجمالي السكان، لا يزيد في أفضل الحالات عن 9 في المئة، على رغم معاناة أهل الريف أصلاً من تردي الوضع الغذائي ووضع المياه والسكن الصحي، وهي عوامل تضعف من مستوى الرعاية الصحية المقدمة لهم. وفي إطار الندوة التي رعتها «مكتبة الإسكندرية» في «منزل السنّاري»، تناول الدكتور محمد حسن خليل، منسّق «لجنة الحق في الصحة»، مشاكل القطاع الصحي، والرؤى المتصلة بالارتقاء بالخدمات الصحية إلى مستوى يرضي المنتفعين بها. واعتبر أن هذا الرضا هو المعيار الأساسي لقياس مستوى جودة الرعاية. وقال: «هناك خطوط مرشدة عالمياً في التشخيص والعلاج يجب الاحتكام إليها مع عدم إغفال الاجتهادات. ومثلاً، هناك الطب المبني على الأدلة (ومدى الالتزام بقواعده) الذي يعتبر من أهم المؤشرات لقياس جودة الرعاية الصحية». ونبّه خليل أيضاً إلى حق المريض في وجود ملف طبي، وأن يبدأ العلاج بفحص المريض من قِبَل طبيب عام، مع وضع قواعد واضحة للحالات التي يجب أن تُحال من هذا الطبيب إلى المستويات الأخرى في الرعاية الصحية. وأضاف: «نعاني من خلل فاضح في هذا السياق. إذ نجد أن الطبيب العام من وجهة نظر المريض الغني يتمثّل في الأستاذ الجامعي، لأنه يملك ثمن الكشف عنده. وبقول آخر، فإن المعيار هو المستوى المادي والاجتماعي وليس الاحتياج الطبي». وأشار خليل إلى أن التأمين الصحي المرتقب يجب أن يكون وسيلة لتمويل تكاليف الرعاية الصحية، لأن الحاجة للرعاية الصحية لا يمكن التنبؤ بها. وأضاف: «لدينا عناصر قوة كثيرة داخل الهيكل الطبي المصري تساعدنا كثيراً في تحسين الأداء الطبي مستقبلاً... هناك ثقافة طبية لدى المرضى المصريين، وهناك بنية تحتية قوية تتمثل في المنشآت الصحية المنتشرة في أنحاء البلاد، إضافة إلى هيكل متوازن يشمل الرعاية الصحية الأولية والثانوية، كما أن 95 في المئة من السكان لا يبعد عنهم مركز الرعاية الصحية أكثر من 5 كيلومترات، وهناك الكوادر البشرية الجيدة، ومن خلال بعض الخطوات المهمة نستطيع الوصول بالرعاية الصحية في المستقبل إلى مستوى جيد يشمل المصريين جميعاً من دون تمييز».