لا احد يعرف بالضبط إلى أين تتجه مسيرة الشعرية العراقية الجديدة بعد كل هذه الفوضى التي تجتاح البلد منذ ما يقارب نصف قرن وحتى الآن . وإذا كان معلوماً إن الشعر العراقي لغاية تسعينات القرن المنصرم ظل يرفد الحياة الثقافية في هذا البلد بشعراء هم امتداد لأجيال سابقة ومهمة، فإنه الآن بسبب هذه الفوضى وبعض الإكراهات الأخرى لا يمكن تحديد مساره ولا معرفة شعرائه الجدد أو أهميتهم. تظهر بين فترة وأخرى مجاميع شعرية لشعراء عراقيين شبان لا يستغرب المرء حين يجد فيها صدى شعراء الستينات أو السبعينات أو حتى الثمانينات، فالتأثير الذي تركته هذه الأجيال ما زال فاعلاً وقوياً ويستعاد على أيدي الشعراء الشبان العراقيين وغير العراقيين. الشاعر علي محمود خضير الذي اصدر اول ديوان له تحت عنوان «الحالم يستيقظ» (دار الغاوون) هو واحد من هؤلاء الشعراء الذين يستعيدون في شعرهم مرحلة الستينات خصوصاً تجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر وسامي مهدي ولكن بتقنية قصيدة النثر. هذان الشاعران المعروفان بكتابة القصيدة ذات اللغة الصافية والنبرة الخافتة مازالا يؤثران بالأجيال الجديدة بعد إن سادت في نهاية التسعينات تجارب ضعيفة لا يراد لها إن تحسب على الشعر العراقي. يكتب علي محمود خضير في أجواء الستينات لكن موضوعاته حديثة وتجري يومياً في بلده وما زالت لكن أكثر ما يثيره كعراقي أولاً وكشاعر بالتالي هو ما فعله ويفعله الاحتلال في العراق والعراقيين، حيث يصف مشاهد المارينز وهم يقتحمون البيوت ويرعبون الصغار والكبار. ليس هذا فحسب، بل كيف يكبلونهم ويضربونهم ويأخذونهم إلى جهات مجهولة. في قصيدة « وهي تتحول إلى ملاك « وهي مهداة إلى فتاة عراقية قيدها جنود الاحتلال وربما قتلوها في ما بعد يقول خضير « هل اجعل أصابعي في أذني كي لا اسمع نحيبها ؟ / كيف مرت البارحة / بماذا فكر رجال المارينز قبل إن يقتحموا عليها الدار / ماذا سيقولون للرب / وماذا عن أنين أخت منتظرة وأب يتعثر الرعب على لسانه ويموت ؟/ ماذا عن سعال أم سقط النعاس من رأسها وظل واقفاً على الباب / ماذا عن أيديهم القوية وهي توثق يديك الطفلتين إلى الخلف ليفعلوا ما يفعلون ؟ / ماذا عن الصبية في الغرفة المجاورة / مكورين عند الزاوية «. هذا المشهد الذي تكرر آلاف المرات وراح ضحيته آلاف العراقيين ووصلت فضيحة الاحتلال فيه إلى عنان السماء لا يختلف عن المشهد الذي رأيناه يتكرر في سجن أبي غريب. لكن المشكلة ليست هنا، بل المشكلة انه تحول في اللاوعي إلى مشكلة ثاوية سرعان ما تظهر بمجرد أن يكون هناك محرك يدعوها للظهور مرة أخرى وما أكثر هذه المحركات في حياة العراقيين؟ شعرية الرعب هذه يعبر عنها أحياناً بطرق مختلفة في الشعر العراقي المكتوب خلال السنوات الثماني الأخيرة ومرد ذلك يعود إلى الصور المرعبة التي تكتنز بها المخيلة العراقية وكثرتها وتكرارها حتى يبدو أحياناً بالنسبة للقارئ العراقي إن هذه الصور الشعرية مكررة لأنه رآها وعاشها بعينه مراراً وتكراراً ولكن ذلك ليس صحيحاً لأن الرؤية مختلفة في حين إن المشهد واحد. لنعد إلى الجملة الأولى في المقطع الذي اخترناه من القصيدة والذي يقول « هل اجعل أصابعي في أذني « هذا السلوك لا يحدث فجأة وإنما يأتي بفعل تكرار حدث معين، أنت لا تضع أصابعك في أذنيك إلا حينما تشعر أن شيئاً ما سيحدث وسوف يزعجك أن تسمع ما سيحدث. إذن فالشاعر يعرف عن أي شيء يتحدث، عن المشاهد المرعبة التي رآها وعاشها ولا يتمنى تكرارها. لا يتردد الشاعر في وصف أسلحة الاحتلال ورعبها والأسلحة المحلية الأخرى التي تبيد العراقيين ويكرر الفعل نفسه حين يضع جمرة في أذنيه هذه المرة لكي لا يسمع أو يرى ما يحدث. التكرار هنا له دلالة بالغة للإشارة إلى بشاعة ما يحدث دون مبالغة أو تهويل « ارسم على جدرانهم نخلة تحترق / وحتى اتقي هزء المجنزرات وصياح بنادق ملثمة / أصم أذني بجمرة سافرة «. الرعب هنا له دلالات مختلفة حين يتحول كل شيء إلى سلاح، هناك أولاً سلاح المحتل وسلاح محلي آخر، يتجه كله نحوك أنت الذي لا تملك سلاحاً أو بالأحرى المقصود كي تكون ضحية. هذه هي حال كل العراقيين الذين يقفون ضد العنف بكل أشكاله سواء جاء من الرجل الأميركي الغازي أو من الرجل العراقي بوصفه مقاوماً أو إرهابياً. في ثيمة أخرى من قصائد هذه المجموعة أفكار لا تبتعد كثيراً عن موضوعة الرعب والخوف من الحاضر مؤطرة بالحلم لأن الحلم هو الشيء الوحيد في الحياة اليائسة، الذي يمكن الاتكاء عليه في العالم الأسود ... « الآخرون وحدهم من يجعلوننا نكبر / هم أيضاً بإمكانهم إن يدعونا صغاراً إلى الأبد « قصيدة أوزار المعنى. هناك قصيدة أخرى تشي بهذا العالم لا تختلف كثيراً عن هذه الأفكار ولكنها تتجه إلى المستقبل في محاولة لخلق مصالحة مع الآخر ودعوته إلى علاقة جديدة تقر بالتغيير الحاصل في الحياة « لن تطأهم الفجيعة ولن تمسهم شمس الخسارات / لهم أسماؤنا ولنا منهم معنى إن نكون / آه كم أحبهم أطفالنا الذين سيأتون».