تأمل ما يجري في اليابان. يعاني هذا البلد من مفاعلاته الذرّية في فوكوشيما داتشي أكثر من معاناته من الزلزال والتسونامي اللذين تسبّبا في دفع هذه المفاعلات الى الكارثة. لا تنس ذكريات ليست بعيدة في مفاعل تشيرنوبيل في أوكرانيا، تذكّر أن هذه مفاعلات سلمية، لا تفعل سوى توليد الطاقة من ذرّات اليوانيوم المخصَّب، ثم فكّر في السؤال التالي: هل تقبل أن يوضع مفاعل ذرّي صغير في منزلك، ليعطيه طاقة مديدة؟ يأتي السؤال من مفارقة أن الوضع الكارثي للمفاعلات اليابانية، جاء في وقت تغيّرت فيه النظرة عالمياً الى الطاقة الذرّية، إذ دفع التغيّر في المناخ المترافق مع الاحتباس الحراري، الى التفكير بالذرّة كمصدر لطاقة هائلة لا تنفث غازات تلوِّث الجو وتتسبّب في ارتفاع حرارة الكرة الأرضية. وساعدت أمور، مثل الارتفاع المذهل في أسعار النفط، والتقارير المتوجسة من قرب نفاده، في التفكير إيجابياً بالطاقة الذرّية. ووصلت شركة «هايبرآيون باور جنِرايشن» الأميركية بهذا المنحى الى حدّ يلامس الخيال العلمي، إذ تسعى لصنع مفاعلات ذرّية صغيرة يبلغ طولها 2,5 مترين وارتفاعها 1,5 متر، ويُطلق عليها اسم بطاريات ذرّية. فكّر في مفاعل مثل «بوشهر» وقد تحوّل الى هذا الحجم الصغير. وعلى رغم أن حجمها لا يزيد عن الثلاجة المنزلية، فإنها تستطيع توليد 25 ميغاواط من الكهرباء، ما يوازي 1\40 من طاقة مفاعل ذري ضخم. ويعني ذلك أن بطاريات «هايبرآيون» الذرية تستطيع إعطاء طاقة كهرباء تكفي مدينة من عشرين ألف منزل، وكذلك الحال بالنسبة الى القواعد العسكرية، ومحطات تحلية مياه البحر، ومنشآت التنقيب في المناجم، والسفن التجارية وحتى طائرات نقل الركاب. خيار ذرّي جديد من مقر الشركة في دنفر، لا يتردد جون ديل، مدير «هايبرآيون»، في الإشارة الى أن البطاريات الذريّة تستطيع أن تقلب مشهد الطاقة عالمياً. ولا يقتصر الأمر على هذا المدير المتحمّس، ففي تقرير صدر أخيراً، أعرب وزير الطاقة الأميركي ستيفن تشو (وهو حائز جائزة نوبل في الفيزياء) عن اعتقاده بضرورة تمويل مشاريع في الطاقة البديلة، يُطلق عليها اسم «المفاعلات النموذجية الصغيرة»، داعياً الى النظر إليها كخيار ذري جديد. وتعمل مجموعة من الشركات العالمية على صنع هذا النوع من المفاعلات، مثل «هايبرآيون» و «نيوسكيل باور» و «توشيبا» و «وستنغهاوس» و «بابكوك أند ويلكوكس» وغيرها. في المقابل، لا يخفي كثير من العلماء، مثل اختصاصيي الذرّة في «الجمعية الأميركية لتقدّم العلوم»، خشيتهم من أن تكون هذه البطاريات مدخلاً لنشر الطاقة الذرية عالمياً، مع ما تحمله من مخاطر كبرى، تشمل انفجارها عرضياً، وإمكان استخدامها من قبل مجموعات إرهابية، وحدوث زيادة ضخمة في كمية النفايات النووية الناجمة عن صنع هذه البطاريات واستخدامها وغيرها. عند مطلع العصر الذري، لم تمنع مأساةُ القصف الذرّي لهيروشيما وناغازاكي في اليابان، بعضَ المتحمسين من تخيّل مستقبل تعيش فيه الكرة الأرضية على الطاقة الذرية، بمعنى استخدام طاقة الذرّة في مناحي الحياة كافة، مثل الصناعة والزراعة والمواصلات وإمدادات الكهرباء وغيرها. هل تنفض البطاريات الذرية الغبار عن هذه الأحلام وتُجدّدها، أم أنها تبدو كوابيس في ظلّ المأساة المتصاعدة في مفاعلات فوكوشيما داتشي اليابانية؟